تَحْوِيلُ القِبْلَةِ
منذ بزوغ فجر الإسلام على البشرية، فُتحت أبواب متعدّدة للناس وغلّقت أبواب أخرى, بعضها حلّل لهم وبعضها حرّم عليهم أموراً في الحياة, وأصبح الناس يلقّبون بلقب (المسلمين), وبهذا جاء الإسلام داعماً للمجتمع ومساوياً بين الناس في حقوقهم وواجباتهم إزاء أنفسهم والآخرين. دعا الإسلام الناس إلى عبادة الربّ العظيم، الذي هو خالق كلّ شيءٍ ورازقه, وجاءت التعاليم الإسلامية على لسان الأنبياء والرُسل الذين اختارهم الله لأداء رسالته, وقد لاقوا العناء الكثير في حياتهم من أجل إصلاح الناس ودعوتهم إلى الحقّ وعبادة الله عزّ وجلّ, فكان لا بدّ لهم من اختيار مكان للعبادة يتوجّهون فيه إلى الله, فكانت قبلتهم المسجد الأقصى، وذلك كان بأمر من الله سبحانه, حتى كانت قبلتهم لمدة لا تقل عن ثلاثة عشر عاماً, يتوجّهون إليه بصلواتهم وأدعيتهم وأداء طقوسهم الدينية والشرعية, مصدّقين بكلمة الرسول محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان نبيّاً مُرسلاً من قِبل الله(سبحانه وتعالى) لهداية الناس، وتوضيح تعاليم الإسلام المفصّلة وشرحها لهم. هاجر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة إلى المدينة - حيث كان سبب هجرته الأذى الذي لاقاه من قريش وزعمائهم-, وعند وجوده في المدينة عاش هو والمسلمون مع اليهود, وكانت قبلة اليهود أيضاً هي المسجد الأقصى، وقد عانى منهم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل خاص والمسلمون بشكل عام, وبعد أن كانوا يُعَيّرونَ النبيّ الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه يتّبع قبلتهم نفسها وهو بذلك يكون تابعاً لهم ولدينهم, حَزِن الرسول حزناً شديداً، وخرج ذات ليلة ينظر إلى السماء وينتظر أمر الله(سبحانه وتعالى), فلمّا أصبح في اليوم الثاني وهو يصلي صلاة الظهر وصل حتى الركعة الثانية فإذا بالوحي قد أخذ بعضُدي النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وأماله إلى اتجاه الكعبة المشرّفة, ذاكراً الآية المباركة: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)/(البقرة، الآية: 144)، وكان ذلك في شهر رجب - على الأشهر- من السنة الثانية للهجرة. وبهذا أصبحت الكعبة المشرّفة هي قبلة المسلمين وتوجّههم, وأراد الله(سبحانه وتعالى) بهذا الأمر أن يختبر إيمان المسلمين, ويميّز الذي يتّبع الإسلام بظاهر القول, والذي يتّبع الإسلام بقلبه وبكلّ جوارحه, وأصبحت أيضاً هي القبلة التي يتوجّهون إليها عند ذبح الأضاحي وعند الصلاة. وها هي الكعبة المشرّفة إلى يومنا الحالي يتوافد إليها المسلمون لأداء مناسك الحجّ، وأصبحت قبلتهم الدائمة.