الصَّادِقُ الأَمِينُ(صلى الله عليه وآله وسلم) بَينَ المَدرَسَتينِ
كثيرةٌ هي الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام بشأن شخصيّة خاتم الرسل(صلى الله عليه وآله وسلم)، حتّى صاروا يبثّونها في عقول المسلمين، ممّا أدّى -مع بالغ الأسف- إلى زعزعة عقيدة بعض المسلمين، وإنْ كانوا قلّةً قليلة. ومهما تكن تلك الشبهات يمكن دفعها وبكلِّ يُسرٍ بسمةٍ واحدةٍ من سماته (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو كونه(صلى الله عليه وآله وسلم) معصوماً، بيدَ أنَّ ما يحزُّ في النفس عدم اتفاق كلمة المسلمين عليها رغم وضوحها لكلِّ ذي بصيرة، ودلالة العقل عليها قبل النقل. لذا كان من الأهميّة بمكان التأكيد على هذه السِمة بحدودها الصحيحة، وترسيخها في أذهان الناشئة لتشكّل لديهم قاعدةً عقديّة قويّة لا تخترقها الشبهات. اتفقت كلمة المسلمين على عصمته(صلى الله عليه وآله وسلم) في التبليغ لقوله تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)/ (النجم:3،4)، بيد أنَّهم اختلفوا في سائر أفعاله وأقواله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي عصمته من السهو والنسيان، فقالت الإماميّة بعصمته المطلقة عقلًا ونقلًا في جميع أقواله وأفعاله، ومن السهو والنسيان أيضاً، فأمّا عقلًا؛ فلأنَّ الغاية من إرسال الأنبياء هي تصديق البشر إيّاهم، ومن ثَمّ اتّباعهم، وفرضُ اتّباعِ مَن يعصي الله تعالى تغريرٌ للتابعين بالمعصية، ومن ثَمّ من الظلم عقابهم، وتعالى الله سبحانه عن ذلك علوّاً كبيراً، وأمّا نقلا فللآية المتقدّمة. أمّا العامّة فقد حصروا عصمته في التبليغ فقط، لأنّهم ذهبوا إلى أنَّ في الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) جانبين: جانباً نبويّاً، وآخر بشريّاً، فأمّا الأول فهو معصومٌ فيه عن الخطأ بلا شكّ ولاريب، وأمّا الجانب البشري فقالوا هو فيه كالبشر، يُحِبُّ ويكره، ويرضى ويغضب، ويأكل ويشرب، ويُصيب ويُخطئ، وينسى ويسهو .. إلخ، مع ما ميَّزه الله(سبحانه وتعالى) به في هذا الجانب ببعض المميّزات، كسلامة الصدر، وعدم نوم القلب، وغيرها. وقالوا إنَّ هذا الجانب هو السبب في صدور بعض الأخطاء عنه(صلى الله عليه وآله وسلم). وهو قولٌ متناقضٌ إلى حدٍّ كبير يخرج من دائرة العقل والمنطق، إذ كيف للمسلمين أنْ يُفرِّقوا بين أقواله وأفعاله في جانبه النبويّ وبينها في جانبه البشريّ؟! ومن عجيب أمرهم تهاونهم في مسألة عصمته(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل نهيهم عن التوغّل فيها رغم عظيم أثرها في الدين الإسلاميّ برمّته؛ إذْ إنَّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ذاته الذي يرونه تارةً معصوماً وأخرى ليس بمعصومٍ، إنَّما هو نفسه الطريق الوحيد لوصول القرآن الكريم إلينا، فلئن لم يكن معصوماً في جميع أقواله وأفعاله فهو ليس بمعصومٍ أيضاً في تبليغه القرآن الكريم، وهذا يعود على أصل القرآن الكريم والسنّة المطهّرة بالبطلان، ومن ثمّ يُبطِل الإسلام من الأساس. وهو قولٌ بعيدٌ غاية البُعد عن الصواب؛ لمخالفته للعقل والنقل معاً، فأمّا العقل فلأنَّه يعني اجتماع العصمة وعدمها فيه، والعقل يقضي باستحالة اجتماع النقيضين، وأمّا النقل فلقوله تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)/ (النجم:3،4). وعليه يلزم على مَن يقول بعصمتِه في التبليغ القول بعصمته في جميع أقواله وأفعاله، والتسليم بذلك كلّه، وعدم المجادلة والاعتذار عن قبولها بحججٍ أو فلسفاتٍ واهية؛ لأنَّ رفضَ بعض أقوالِ المعصومِ عن الخطأ وأفعاله، والوهم في التبليغ بحجّةِ صدورها عن جانبه البشريّ، إنّما هو نقضٌ لعصمتِه في التبليغ، وانتقاصٌ لها.