رياض الزهراء العدد 162 لحياة أفضل
الفَردُ بينَ النِّفَاقِ الاجتِماعيّ وَالنِّفَاقِ الذَّاتِيّ
ربّما تُعجب بأحدهم حين تسمعه متحدّثًا عن جوّ العائلة الدافئ؛ وأهميّة اجتماع الأسرة على موائد الطعام، وكيف ينبغي على أبنائه استثمار أوقاتهم بالمفيد والمستحسن؛ فإذا أقبل ابنه المراهق انهال عليه مزاحًا ثقيلًا سمجًا فيه من السخرية والاستخفاف والاستهزاء ما يشعل قلب الشابّ خجلًا وغضبًا، ولا يلبث أن يختفي من الغرفة! على مَن يكذب الأب الفاضل؟ أعلى جلسائه؟ أم على نفسه! وتحدّثكَ أمّ حنون عن ابنها ذي الأربع سنوات، وذكائه وحذاقته، فإذا سكب كوب العصير أمامها، تمسك يده بقوة، وتمنعه من الصراخ أو التألّم؛ أيّتها الأمّ الحنون ممّن تسخرين؟ من جليستكِ أم من نفسكِ؟! والزوجة المتباهية أمام صديقاتها بحسن تدبيرها ونظافتها واهتماماتها، بينما في البيت تراها كئيبة مُكرهة! نحن نعيش في مجتمع نرجسيّ، مزدوج المعايير، يقول شيئًا ويفعل شيئًا آخر، ولقد نُهينا عن هذا الفعل منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)/(الصف: 2). ومردّ هذا النهي، فضلاً عن كونه مسببًا للمقت الإلهي، فهو يدلّ على عقدة نفسيّة عميقة، وازدواجيّة مقيتة، فأن يقول الإنسان ما يناقض فعله لهو أمر مضطرب، يبعده عن ذاته الحقيقيّة، ويجعل من شخصيّته شخصيّة قشريّة زائفة، لا تؤمن بذاتها (التي تعلم الحقيقة)، ولا يصدّقها الآخرون (الذين يرون ازدواجية الفكر والسلوك)، فتخلق شرخًا كبيرًا بين الإنسان ونفسه، وتتكوّن هوّة عميقة بين الذات الحقيقيّة والذات الزائفة أو الظاهرة؛ وتبعات هذا الزيف وهذه الفجوات يتحمّلها وياللأسف الجيل الصاعد، الذي يرى بشفافية ويراقب بدقّة، فيتشرّب معاني الزيف والادّعاء، ويكون أمام خيارين، إمّا السير قدمًا على نهج أسلافه، أو التغيير، وهذا التغيير يتطلّب منه صراعًا وجهادًا ومثابرة؛ ليمتلك شخصيّة ذات مصداقيّة، فيطابق فعله قوله، وتُماثل أفكاره سلوكه، وليس ذلك بالأمر المستحيل، إنّما يحتاج إلى الدربة والاستمرار. حاجتنا إلى نبذ النفاق ليست ترفًا أو رفاهية أو فعلًا أخلاقيًا، إنّما هي حاجة إنسانيّة مطلقة، ليصادق الفرد نفسه ويصدّقها، فيحترمها ويحبّها ويقدّرها ويثق بها، وهو إذّاك سيحبّ الآخرين ويحترمهم ويقدّرهم. الصدق مع الذات، والمصداقيّة داخليًّا وخارجيًّا كلّها مفتاح ذهبيّ لراحة الإنسان النفسيّة والوجدانيّة، ومنها ينطلق بطاقة مؤثّرة إيجابيًا فيه وفي مَن حوله، فهو إن أدركها ستفتح له طاقات غنى ماديّ ومعنويّ لم يكن يحسب لها حسابًا. سواء كان من منطلق دينيّ، أو نفسيّ، أو علميّ، على كلّ فرد منّا أن يراقب أفعاله، ويسأل نفسه: هل تطابق أقواله وأفكاره؟ هل هو صادق مع نفسه ومع الآخرين؟ ولأيّ درجة؟ وبأيّ نسبة؟ وبذلك يكون قد بذل ما في وسعه لتقريب المسافات، وردم الفجوات. ولنبتغِ في ذلك وجه الله(سبحانه وتعالى)، الذي أفرد سورة كاملة أسماها "المنافقون"، حيث يقول تعالى فيها: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)/(المنافقون: 4)! فلنتجنّب أن نكون منهم، ولنسعد في الدارين، الدنيا والآخرة.