الصُّلحُ فِي ذَاكِرَةِ التَّارِيخِ

منتهى محسن محمد/ بغداد
عدد المشاهدات : 225

لابأس بثيابي وهيئتي المختلفة عن باقي الناس، واختلاف لهجة لساني، المهمّ أن أفكّ طلاسم ما يدور أمامي من أمور غامضة. - يا أخا العرب.. هلّا تحدّثني بما يدور؟ - دعني بالله عليكَ فلقد عَظُم الفراق بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). لا أكاد أفقه ما يحدث إلّا أنّني أجد في أرض البقيع المقفرة حزناً شديداً، فلو سقطت فيها إبرة ما وقعت إلّا على رأس إنسان(1)، سبعة أيام والناس في نَوحٍ شديد، من النساء والصبيان والرجال(2)، المدينة مُوحشة لا حركة تدبّ فيها، لا دكاكين ولا أسواق مشرعة، وأنا تائه على غير هوادة، تتقاذفني الأفكار تارة، وتراودني الرغبة في البكاء تارة أخرى. - أرجوكَ ألا تخبرني عمّا حدث في هذه الأرض المباركة؟ - أراكَ غريباً عن المدينة أيّها الرجل، فلباسكَ له طراز خاصّ. - لقد حملتُ حزني جملة مستعرة، وسافرتُ في الزمان أفتّش عن مدينة مقدّسة، لعلّي أُلقي أحمالي التي أرهقتني منذ سنين عدة، جُبتُ الكثير من الأزمنة، ووصلتُ إلى هنا في استرجاعات الذاكرة الغافية، لكنّ شيئاً ما شدني وتوقّفت ها هنا لخطب جلل غيّر معالم هذه المدينة العريقة. - صدقتَ... لقد قضى مولانا الحسن بن عليّ(عليه السلام) نحبه مسموماً منذ سبعة أيام، وترى الناس حيارى تتغشّاهم الهموم وتفترسهم الأحزان. - وَرَدنا أنّ زوجته (جعدة بنت الأشعث) هي التي سمّته! - نعم.. ما وصلكم صحيح، لقد استخدمها معاوية دسيسة لتنفيذ جرائمه في حقّ أهل البيت(عليهم السلام). - ألم يكفِ معاوية الصلح مع الإمام الحسن(عليه السلام)؟ - كلا لم يأبه بذلك على الإطلاق، ولقد قال قولته المشينة عندما نزل في الكوفة واعتلى المنبر: "ألا وإنّي كنتُ منّيتُ الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها له"(2). - هذا ديدن الفجرة... كان للصلح غايات، وعلى هذا نصّت بطون الكتب لدينا. - نعم ولعلّ أهمّها أنّ الإمام(عليه السلام) أراد حفظ نفسه وشيعته لعدم التكافؤ بين المعسكرين، خاصّة بعد أن أخذت الحروب التي شُنّت ضدّ حكومة والده الإمام عليّ(عليه السلام) الكثير من خلّص الشيعة، في حرب (الجمل) و(صفين) و(النهروان). - نعم لم تكن الأرضيّة ممهّدة ومناسبة لخوض النزال. - سلام الله عليكَ يا مولاي، لقد لامه بعض القوم وعابه آخرون، وسأله أبو سعيد عقيصا قائلاً: "يا بن رسول الله! لِمَ داهنتَ معاوية وصالحتَه؟"(3). فقال: يا أبا سعيد: علّة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لبني ضمرة وبني أشجع، ولأهل مكّة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفّار بالتنزيل، ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل.(4) لم أتمالك نفسي فلقد أخذتني الحسرة على إمامي، وشهقتُ بالبكاء وأنا أطلّ على قبره الشريف، وألمس جور الظالمين وعداوة المبغضين، حتى وصلني فجأة صوت عالٍ من نافذتي، طبول تدقّ، ومزامير تضرب، ودوي يقترب شيئاً فشيئاً، رميتُ الغطاء لأشهد مسيرة عظيمة يُقيمها بعض الموالين عزاءً للإمام الحسن(عليه السلام) في ذكرى استشهاده، استللت الراية وهُرِعتُ نحو الموكب مشاركاً ومعزياً للعترة الهادية المهديّة. ..................................... (1) تهذيب الكمال: ج2 ص601، وتاريخ دمشق: ج14 ص118. (2) بحار الأنوار: ج44، ص49. (3) بحار الأنوار: ج44، ص1. (4) المصدر نفسه: ج44، ص2.