نِسَاءٌ قَضَتْ عَلَيهِنَّ الأَحكَامُ العَشَائِرِيَّة
بعض الموروثات القبلية البائدة لا تزال تهيمن بشكل خانق على بعض المناطق التي تتحكم بها التقاليد والأعراف العشائرية، ولم يفلح التطور والانفتاح العلمي في تغيير هذه الموروثات الاجتماعية البائدة، التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا، فتكون المرأة هي ضحية تلك الأعراف، فتارة نجد ابن عمّها يمنع كلّ مَن يتقدّم لخطبتها ولو بقوة السلاح، ويصرّ على الزواج منها ولو بالإكراه، وهذا ما يُسمى (بالنهوة)، وتارة أخرى نجد الأب أو الأخ يُصاهر بها عن طريق زواج (اﻠﮔصة باﻠﮔصة)، وثالثاً يضحّون بها قرباناً لأخطاء العشيرة التي لا تتوانى عن الصراع وسفك الدماء مع عشيرة أخرى، فتكون الدية فتيات قاصرات (كفصلية) ليحلّ الصلح بين العشيرتين على حسابها من دون النظر إلى حقوقها المشروعة التي أقرّتها الأديان السماوية. في استطلاعنا هذا هيّجنا جروحاً بعضها كان مضمراً وآخر ما يزال ينزف، وهنّ أنموذجٌ مصغرٌ لحالات كثيرة متشابهة، كلّ حالة تحكي مأساة المئات من الفتيات اللواتي قضت عليهن الأعراف العشائرية البائدة. (جارية أم مملوكة!) من تلك الحالات حالة وداد ذات الإحدى عشرة سنة التي خرجت من بيت والدها ليلاً، تصطحبها والدتها فقط لتكون الضحية! فعن طريق الخطأ قتل والدها شخصاً في حفل زفاف ابن عمّه، ففي أثناء إطلاق العيارات النارية في الهواء اهتزت البندقية في يده، فأصابت أحد المدعوّين من عشيرة أخرى وأردته قتيلاً, وبعد مفاوضات مع أهل المقتول وإثبات أنّ القتل كان قضاءً وقدراً، قبلوا بالدية! وهي (وداد الفصلية), وبعد أن أنجبت أربعة أولاد ظلوا يعاملونها كمملوكة لهم. أمّا زهرة امرأة خمسينية فتقول: تزوّج أخي (ﮔصة ﺒﮔصة) لأكون ضحية هذا الزواج الفاشل، كنتُ أريد الطلاق، لكن أخي لم يوافق؛ لأن ذلك سيؤدي إلى طلاق زوجته، فأصرّ على بقائي على ذمة زوجي الذي هجرني في بيت أخي منذ أن كان ابني طفلاً صغيراً، عانيت كثيراً بسبب المشاكل مع زوجة أخي التي لم تتقبلني في بيتها، وازدادت المشاكل عندما كبر ابني وبدأ يتشاجر مع أولادها، فاضطُررت إلى استئجار غرفة في بيت امرأة مسنّة لأعيش أنا وابني، مثلما اضطُررت إلى أن أعمل بائعة ملابس لأستطيع إعالة نفسي وتربية ابني، وأكون له الأب والأم. وقالت سليمة البنت الوحيدة لوالديها: كنتُ جميلة ومدلّلة، وكان الخطّاب يطرقون بابي كثيراً إلّا أنّ ابن عمّي لم يسمح لأيّ منهم، رغم أني رفضته لأنه يكبرني سنّاً ولديه زوجة وأولاد، لكنه بقي مصراً على رأيه، والسبب لأنه ابن العم وله الحق عشائرياً كما يدّعي! بعدها تزوج أخي الأكبر وسافر بعيداً، واستشهد أخي الأصغر، وتوفي والداي وتركوني وحيدة، أشاهد قطار عمري يمرّ محمّلاً بأرشيف حياتي التي أعاقتها العقليات المتخلفة والظلم والاستبداد. وضعنا أسئلتنا على طاولة قانون الشريعة والقانون المدني؛ لنتعرف على آرائهم في هذه الظاهرة. فتفضل الشيخ سعد الحسيناوي قائلاً: إنّ زواج الفتاة بالإكراه هو أمر مخالف للشريعة الإسلامية. وبيّن أنّ في مسالة الزواج الولاية للأب والجدّ فقط عندما تكون البنت الباكر حديثة البلوغ، إذ تكون خبرتها قليلة في معادن الرجال بسبب نشأة الفتاة في أجواء معزولة عن المخالطة، فلا تمتلك الخبرة والاختيار الصحيح، أمّا البالغة الرشيدة المستقلة اقتصادياً فلا ولاية عليها، كذلك البنت الثيّب, وأمر الزواج راجع إليها. والذي يهمنا هنا هو القول عند أغلب الفقهاء المعاصرين في مسألة الزواج أن يكون بإذن الأب وموافقته مع رأي البنت، كي يصبح الزواج صحيحاً، أمّا إذا كان زواج البنت من غير الكفؤ وقسراً من قبل والدها, فلها الحقّ أن ترفض ولا يصحّ هذا الزواج، ولها الحق أن تتزوج من الكفؤ لها. أمّا رأي القانون المدني فقد أوضح الحقوقي عزّت الخفاجي قائلاً: إنّ قانون الأحوال الشخصية العراقي المرقم 188 لسنة 1959م، في المادة التاسعة التي تتحدث عن النهوة أو الإكراه على الزواج، يعاقب بالحبس من (1-3) سنوات مَن يقوم بذلك من أقرباء الفتاة, وبالسجن (10) سنوات إذا كان ليس من الأقارب. وأضاف: إنّ القانون يسمح للفتاة إذا كانت بالغة سنّ الرشد بتحريك دعوى قضائية ضدّ من نهى عليها، مثلما أنّ ذويها باستطاعتهم تقديم الشكوى إذا لم تبلغ الفتاة السنّ القانونية. وأشار إلى ضرورة تحجيم هذه الظاهرة عن طريق تشديد العقوبة على مرتكبي الإكراه على الزواج بمسمياته كافة لوضع حدّ لهذه الظاهرة. (هروب من القانون) وشاركته الرأي الباحثة الاجتماعية زينب عبد الله، فقالت: إنّ "زواج النهوة، واﻠﮔصة باﻠﮔصة، والفصلية" وغيرها من أنواع إجبار الفتاة على الزواج، هي أعراف عشائرية مخالفة للقوانين السماوية والوضعية؛ لذلك أنّ أغلب الزيجات تتم خارج المحكمة هروباً من المحاسبة القانونية، خاصة عندما ترفض الفتاة الزواج أمام القاضي أو يلاحظ القاضي رفضها بشكل غير مباشر، فيقوم باستدعاء الباحثة الاجتماعية الموجودة في محاكم الأحوال الشخصية لتسأل الفتاة بمعزل عن أهلها وتتأكد من رفضها، وفي هذه الحالة لن يتمّ العقد، ويؤشر القاضي الرفض رسمياً، ونوّهت إلى أنّ أغلب المتزوجات هنّ من القاصرات، وليس لهنّ حقّ الرفض عندما يتعلق الأمر (بالفصلية)، إذ لم يقتصر على القتل وإنما أصبح حلّاً لمشاكل حتى وإن كانت بسيطة، وقد ذكرت إحدى القصص التي أشارت إليها المرجعية في خطبة الجمعة ونُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي منح (50) امرأة قاصرة جنوبي العراق لإحدى العشائر على أثر خلاف مسلّح بين عشيرتين! (إنصاف المرأة) وترتفع المطالبات بإنصاف المرأة من الأعراف العشائرية التي لا ينتج عنها سوى التفكّك الأسري عن طريق خطباء المنابر، وتفعيل قانون العقوبات على مرتكبي هذه الجرائم، والتوعية القانونية؛ لأنّ الإكراه على الزواج جريمة يعاقب عليها القانون.