اختبارٌ قُرآنِيٌّ للنِّفَاقِ في آيتينِ

عبير عباس المنظور/ البصرة
عدد المشاهدات : 223

احتلّ النفاق مساحة كبيرة في القرآن الكريم من بيان مفهومه، وذكر خصال المنافقين وأفعالهم التي تهدف إلى زعزعة المجتمع الإسلاميّ بضرب ثوابت الدين، وتأليب الأعداء وفتح الثغرات أمامهم لضرب الإسلام من الداخل، حتّى أنّ القرآن الكريم أفرد سورة كاملة باسم (المنافقون)؛ لأهميّة معرفتهم والتصدّي لمخططاتهم واحتواء تأثيرهم التخريبيّ. ولا يمكننا أن نلمّ بكلّ ما ورد عن النفاق في القرآن الكريم في هذه العجالة، وإنّما سنعمد إلى آيتين فقط من سورة النساء بيّنت أبرز سمات المنافقين: (إِنَّ الْـمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) (النساء: 143،142) ذكرت الآيتان خمس صفات للمنافقين وهي: 1. (يُخَادِعُونَ اللَّهَ( أيّ: (إظهارهم الإيمان الذي حقنوا به دماءهم وأموالهم، مثلما حقن المؤمنون على الحقيقة).(1) وقد يتبادر إلى الذهن كيف يخدع الله تعالى المنافقين في قوله تعالى: (إِنَّ الْـمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) وهل الخداع من صفات الخالق العظيم؟ يُجيب الإمام الرضا(عليه السلام) عن ذلك عندما سُئل عن قوله تعالى: (سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) (التوبة:79) وعن قوله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (البقرة: 15) وعن قوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) (آل عمران:54) وعن قوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)، فقال (عليه السلام): إنّ الله لا يسخر، ولا يستهزئ، ولا يمكر ولا يخادع؛ ولكنّه تعالى يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر الخديعة، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.(2) 2. (وَإِذَا قَامُوا إلى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى): هذه أبرز صفة للمنافقين، فالصلاة عمود الدين مثلما نعلم، فقد ورد عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) حديث طويل يقول فيه: "لا تقم إلى الصلاة متكاسلاً ولا متناعساً ولا متثاقلاً، فإنّها من خلال النفاق... وقال للمنافقين: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)"(٣). ٣. (يُرَاءُونَ النَّاسَ): الرياء هو أن يعمل الإنسان عملاً ليراه الناس ويثنوا عليه بالصلاح، وهو من صفات المنافقين التي تميّزهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): "لا تُراءِ بعملكَ مَن لا يُحيي ولا يُميت، ولا يُغني عنكَ شيئاً، والرياء شجرة لا تُثمر إلّا الشرك الخفيّ، وأصلها النفاق، يقال للمرائي عند الميزان: خُذ ثوابكَ ممّن عملتَ له ممّن أشركته معي، فانظر مَن تدعو، ومَن ترجو، ومَن تخاف؟ واعلم أنّكَ لا تقدر على إخفاء شيء من باطنكَ عليه، وتصير مخدوعاً، قال الله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة:9)"(4). 4. (وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)، والمعنى واضح لا يحتاج إلى بيان. 5. (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إلى هَؤُلَاءِ وَلَا إلى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) (مُذبذبين) هو أروع تعبير وأدقّه في القرآن الكريم، يقال: (ذبذبته فذبذب، أيّ حرّكته فتحرّك، فهو كتحريك شيء معلّق).(٥) أي إنّ المنافقين يتردّدون بين جانبي الكفر والإيمان، ولا يتمسّكون بأيّ جانب منهما. وأمّا قوله تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا)، فهو علّة ذبذبة المنافقين بين الكفر والإيمان. وبالتأمّل فيما تقدّم، فلو افترضنا أنّ هاتين الآيتين اختبار مكوّن من خمس درجات لخمس صفات رئيسيّة للنفاق وعرضنا أنفسنا على هذه النقاط الخمس، فهل سنكتشف النفاق القابع في داخلنا؟! ............................................ (١) تفسير التبيان: ج٣، ص٣٦٤. (٢) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2، ص115. (٣) بحار الأنوار: ج81، ص 231. (٤) بحار الأنوار: ج69، ص300. (5) تفسير الميزان: ج٥، ص٦٧.