رياض الزهراء العدد 163 لحياة أفضل
(كورونا) بينَ الجَهلِ وَالإِدراكِ
مرّت على البشريّة الكثير من الابتلاءات والمِحَن، وجرى الكثير من الويلات والخراب، وحطّت على الأنفاس الشدائد والكروب، قتل ووحشيّة وإراقة دماء، غُصَص معجونة بلوعة الأمّهات، ثُكل ويُتم ومجاعات، سُقم وداء ووباء. وكلّ تلك الحُقَب كان لها زوال ونفاد، مثلما رافقتها الكثير من المِنَح التي لازمت تلك الانتكاسات، ففي المحصّلة كلّ شيء ينتهي ويتلاشى، فقط تبقى الذكرى تعرش في برج الاستعادة والاسترجاع، واليوم يئنّ الوجود من وباء انتشر في الإرجاء، وانتقل كالنار في الهشيم في أغلب البلدان حتّى حوّل الحياة إلى قبو صغير بعدما كانت فضفاضة الاتّساع. وعلى وقع هذا الوباء تفاعل الناس وتعايشوا بمختلف الأفكار والأطروحات، فمن رافض لهذا الوباء عادّهُ محض ادعاء ووهم واختلاق، غير آبه بالمحاذير، ضاربٍ إيّاها عرض الحائط بسخريّة واستهزاء، وبين مَن سخّر فكره في الغوص بالتحليل ومعرفة حقائق الوباء حتّى أيقن أنّه وليد خطّة مفتعلة لإحدى الدول المستكبرة التي تعيش على دماء الأبرياء، فبالغ في التقصّي، ونالت شكوكه الجميع دونما استثناء. وهكذا دواليك استمرّ الحال تخبّطاً وضياعاً واختلافاً في المتبنيّات والآراء، إلّا أنّ فئة عقلائية استوعبت الموضوع بشديد فهم وانتباه، ونادت بأعلى الأصوات: يجب الحذر من مغبّة الاستخفاف واللامبالاة. ولكن لا حياة لـمَن تنادي فقد صُمّت الآذان وأُغلق العقل عن الإدراك، وراح الجاهلون يتراقصون على أنغام (كورونا) التي عدّوها نوعاً من الخيال والافتراء، وتسرّبت الأيّام والأشهر الأولى بإصابات هنا وهناك، وراحت مجموعة من الناس تستخفّ بمَن يرتدي القفّازات والكمامات، ويُسمعونهم كلاماً لاذعاً مُهيناً. لكنّ الطرف الآخر ظلّ على موقفه الواعي حيث لا مجال لأيّ استخفاف، فالأمر خطير وعلى الناس توخّي الحيطة والحذر، والاستمرار في تقديم النصيحة والموعظة، وإرشاد الناس بالكلمة الطيّبة والقول الحسن، لكنّ الأمر قد تجاوز كلّ الاحتمالات. شعر أهل الدين بفداحة الأمر، فانضمّوا إلى حلقات الوعظ، وتناولوا الموضوع من جنبة حرمة أذى النفس، أو إيذاء الأبرياء، وتناولت خُطَب الجمعة في محورها الرئيسيّ الجائحة التي حصدت الكثير من الأرواح. وبين هذا وذاك ارتفعت حصيلة أرقام المصابين حتّى شارفت المستشفيات الامتلاء، وامتلأت الأسرّة بكبار السنّ وهم يئنّون تحت وطأة المرض الفتّاك، وممّا يُؤسف له بقاء بعضهم مستخفّاً يمضي في الأسواق والتجمّعات من دون حذر أو احتياط. وبعد كلّ التصاعد في الأرقام وانتشار المرض في مختلف المدن والمحافظات، لاذَ أهل الجهل بصمتهم الجبان، بعدما ساعدوا على انتشار الوباء باستخفافهم غير المبرّر، بينما ارتقى أهل العلم المنابر يكرّرون تحذيراتهم، ويدعون الناس إلى رباطة الجأش والالتزام بما تقرّره الجهات المختصّة بكلّ اهتمام. وبهذا ارتفع منسوب الوعي عند الشعب، وشهد التزاماً طيباً بعد كلّ ذلك الانفلات، وهذا يدلّ حتماً على غلبة العقل والدين على مهاوي الجهل والانحطاط، ولو التزم الشعب منذ البداية وامتثلوا لكلام المرجعيّة وأهل الاختصاص لما تصاعدت الأرقام ولقضي على الوباء، لكنّ الدرس البليغ الذي استفاد منه الجميع مفادّه: لا للجهل، نعم للعقل والوعي والإدراك، وعلى الله تعالى الاستعانة والتوكّل، وله الحمد في السرّاء والضرّاء.