رياض الزهراء العدد 164 أنوار قرآنية
البِئرُ في القرآنِ الكَريمِ
ترد بعض المفردات في القرآن الكريم مرّة واحدة فقط لحكمة وأسرار إلهيّة نجهلها، ولأسباب بلاغيّة ودلاليّة نعلمها عن طريق التفاسير والروايات الواردة عن المعصومين(عليهم السلام). ومن هذه المفردات كلمة (البئر) التي وردت مرّة واحدة في القرآن الكريم في قوله تعالى: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍمَشِيدٍ)/(الحج: ٤٥). والبئر: "حفرة تُحفر للاستسقاء".(١) ونعرف معنى البئر بمعرفة سياق الآيات السابقة: (وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَهِيمَ وَقَوْمُ لُوط * وَأَصْحَـبُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَـفِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ* فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَة أَهْلَكْنَـهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْر مُّعَطَّلَة وَقَصْر مَّشِيد)/(الحج: 42-45) فقد جاءت الآيات في معرض تسلية الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)؛ لتكذيب قومه بتذكيره بمصير أقوام الأنبياء السابقين الذين أهلكهم الله(سبحانه وتعالى) بظلمهم: (خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) أي تهاوت عروشهم ومُلكهم وسلطانهم: (وَبِئْر مُّعَطَّلَة) أي مصدر الماء لتلك الأقوام: (وَقَصْر مَّشِيد) أي قصورهم المشيدة ورفاهيّتهم، وهو ما اتّفقت عليه جميع التفاسير. وكلّنا نعلم أنّ للقرآن الكريم ظاهراً، وباطناً، ووجوهاً، واحتمالات، وتفسيراً، وتأويلاً، إضافة إلى الدلالة الظاهريّة المعروفة. ففي إسناد عبد العظيم الحسنيّ إلى الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) في قوله(سبحانه وتعالى): (وَبِئْر مُّعَطَّلَة وَقَصْر مَّشِيد)، قال: هو مَثَل لآل محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: "وَبِئْر مُّعَطَّلَة" هو الذي لا يُستقى منها، وهو الإمام الذي قد غاب، فلا يُقتبس منه العلم إلى وقت ظهوره، وَقَصْرٍ مشِيد: هو المرتفع، وهو مَثَل لأمير المؤمنين والأئمة(عليهم السلام)، وفضائلهم المنتشرة في العالَمين المشرفة على الدنيا، وهو قوله: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٢). وعن الإمامين الصادق والكاظم(عليهما السلام): في معنى قوله تعالى: "وبئرٍ معطّلة وقصر مشيد" قالا: البئر المعطّلة الإمام الصامت والقصر المشيد الناطق"(٣). وبلحاظ متن الروايات أعلاه نستشفّ أنّ الرواء المعنويّ هو علم الأئمة(عليهم السلام) مثلما نصّت روايات عديدة على أنّ الماء في القرآن الكريم هو الأئمة(عليهم السلام)، منها عندما سُئل الإمام الرضا(عليه السلام) عن قول الله(سبحانه وتعالى): (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)/(الملك: 30)، فقال(سبحانه وتعالى): "ماؤكم أبوابكم، أي الأئمة، والأئمة أبواب الله بينه وبين خلقه: (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) يعني يأتيكم بعلم الإمام"(٤)، وعلى أساسه فإنّ المتمعّن في أسرار تأويل القرآن الكريم عند أهل البيت(عليهم السلام) وبتجميعه لتلك الأسرار يخرج بالمحصّلة التي خرج بها صاحب تفسير الأمثل بقوله: "هذا التفسير نوع من التشبيه، مثلما يشبّه المهديّ(عجل الله تعالى فرجه الشريف) ناشر العدل في العالم بالماء المعين، أي أنّ الإمام عندما يستقرّ في دَست الحكم يكون كالقصر المشيّد، يجلب انتباه الداني والبعيد، ويكون ملجأً للجميع، وإذا أُبعد عن الحكم وتخلّى الناس عنه، احتلّ مكانه مَن لا يستحقّه، فيكون عندها كبئر امتلأت ماءً، إلّا أنّها معطّلة لا يُستفاد منها فلا تروي عطشانَ ولا تسقي زرعاً".(٥) وجوهر هذه الآية وأسرارها لخّصها الشاعر في بيتين: بئر معطّلة وقصر مُشــــــرّف مثل لآل محمّــــد(صلى الله عليه وآله وسلم) متطـــرّف فالقصر مجدهم الذي لا يُرتقى والبئـــر علمهم الذي لا يُنزف(6) وهنا نستنتج أنّنا بظلمنا يجازينا الله(سبحانه وتعالى) بحرماننا من الإمام المهديّ(عجل الله تعالى فرجه الشريف) وعلومه في زمن نحن أحوج فيه إلى ذلك الارتواء الماديّ والمعنويّ؛ لنقيم معه دولة الحقّ والعدل في أرض امتلأت بالظلم والجور. ........................................... (1) التحقيق في كلمات القرآن الكريم: ج١، ص٢٢٣-٢٢٤. (2) تفسير نور الثقلين: ج6، ص44. (3) تفسير الميزان: ج١٤: ص٢١٠. (٤) بحار الأنوار: ج٢٤: ص١٠٠. (5) تفسير الأمثل: ج١٠: ص٣٦٦. (6) تفسير نور الثقلين: ج6، ص44.