التَّسَامُحُ: خُطوةٌ نحوَ بِناءِ المُجتمعِ الإِنسانيّ

دلال كمال العكيليّ/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 1599

التسامح الذي جاء به الدين الإسلاميّ ومارسه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هو إحدى وسائل ازدهار الحضارة الإسلاميّة، فقد خلق الله الناس مختلفين من حيث العقل والإرادة، وكان سلوك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكّد على القاعدة التي جاء بها الإسلام ألا وهي التسامح، وأكّد الدين الحنيف على ضرورة التحلّي بمكارم الأخلاق؛ لأنّ الإنسان ما إن يتحلّى بحُسن الخُلق حتى تجده متسامحاً، إذ عُدّ التسامح من أهمّ الأسس التي تساعد في بناء المجتمعات الإنسانيّة، وتعزّز من العيش المشترك والقدرة على التعايش بين مختلف المكوّنات المتغايرة، وكذلك إدارة الاختلافات بصورة صحيحة بما يثري المجتمع ويُسهم في تقدّمه وتطوّره وتنميته ورقيّه. التسامح يجب ألّا يقتصر على جانب دون آخر، أو فئة دون أخرى، أو مكوّن دون سائر المكوّنات، بل يجب أن يعمّ الجميع، ويتحوّل إلى ثقافة اجتماعيّة عامّة، والتسامح أنواع: (التسامح الدينيّ، التسامح الأخلاقيّ، التسامح الإنسانيّ، التسامح الاجتماعيّ، التسامح الفكريّ، التسامح السياسيّ)(1). أجرت رياض الزهراء(عليها السلام) استطلاعاً للرأي عن ثقافة التسامح وترسيخها في المجتمع، وبعض المفاهيم المرتبطة بهذا المبدأ: التسامح هل يعني قبول الظلم الاجتماعيّ أو تخلّي المرء عن معتقداته أو التهاون بشأنها؟ الدكتورة رائدة العكيلي/ مديرة علاقات قناة العهد قالت: عندما يتّصف إنسان ما بالطيبة، ويغلب على طبعه المسامحة دائماً، فإنّه قد يتعرّض إلى نكران الجميل، ونكران المواقف الجميلة بين الأصدقاء أو الأهل أو الزملاء ومسامحتهم على إساءات متكرّرة أصبحت مألوفة في بعض المجتمعات، فسكوت الشخص عن الظلم ونسيان الإساءة لا يعني استمرار قبوله بهذا الواقع، فأغلبنا يتصرّف وَفق تعاليم دينه السمحة، وعادات مجتمعه وأطباعه وتقاليده، خصوصاً إذا كان هذا المجتمع ذا طابعٍ عشائريّ أو قَبليّ، فالمعروف عن هذه المجتمعات أنّها تتّصف تقريباً بصفات متشابهة لكونها منغلقة على نفسها، ولا تتأثّر بالتغييرات المجتمعيّة الخارجيّة نتيجةَ الاختلاط بها، بحكم ظروف العمل التجاريّ أو الصناعيّ، والذي يفرض على ممارسيه الاختلاط بالآخرين، لذا نجد أنّ التسامح يكون حاضراً بقوة في تعاملات الأشخاص المولودين في بيئة كهذه، إلّا أنّ هناك مؤثّرات كثيرة نلاحظها اليوم غيّرت بعض تلك المفاهيم المجتمعيّة، ومنها غزو مواقع التواصل الاجتماعيّ المختلفة، وتعدّد وسائل الإعلام التي دخلت كلّ منزل تقريباً، فهذه الأمور سبّبت تغييراً كبيراً في تعامل الفرد مع المحيطين به، وأصبح صاحب الحقّ يتعامل بجديّة أكثر بعيداً عن المشاعر التي كانت مغروسة داخله يوماً ما، أرى أنّ من المهمّ جدّاً تربية الأبناء على عدم التهاون في موضوع الثبات على المعتقدات والإيمان بحفظ كرامتهم مهما كانت الظروف، نعلّمهم حبّ الآخرين ومسامحتهم، لكن في الوقت نفسه، نعلّمهم أهميّة الحفاظ على الكرامة. الستّ ليلى إبراهيم رمضان/ صحفيّة، بيّنت قائلةً: التسامح لا يعني قبول الظلم والتهاون بحقوقنا، إنّما هو نابع من الإيمان العميق بمبادئ الدين، وتجذّر الاعتقاد بأصول الدين وفروعه ومنها العدالة الإلهيّة، وأنّه لا يقبل الله الظلم لأحد ولا يترك مظلوماً في الحياة الدنيا إلّا ويأخذ حقّه ممّن ظلمه في الدنيا والآخرة، ويقتصّ منه القصاص العادل. وإنَّ من أهمّ ما ينبغي أن نتعلّمه من أهل البيت(عليهم السلام)، في صفاتهم العظيمة هو (التسامح)، وهو أن نواجه الأزمات والمشكلات بروح الأناة والتعقّل، والعفو عند المقدرة، والهدوء الخالي من العصبيّة المذمومة والغضب، بحيث نُبقي على الألفة والتعاون فيما بيننا بكظم الغيظ وضبط النفس وتجنّب التعنيف. ولابدّ لنا من أن نشير إلى أنّ أهل البيت(عليهم السلام) كلّهم يتّصفون بالحلم، إلّا أنّ الظروف التي عاشها الإمام الحسن(عليه السلام) اقتضت وساعدت على بروز هذه الصفة في شخصيّته بشكل أجلى وأوضح، فالإمام(عليه السلام) كان يواجه تشنّجات واستفزازات كثيرة قابلها بالحلم والتسامح، فيجب أن نقرأ حلم الإمام الحسن(عليه السلام) بوصفه منهجاً في التسامح الاجتماعيّ، ونعمل على تأهيل المجتمع بهذه الصفة عنه(عليه السلام): "اعلموا أنَّ الحِلْمَ زينةٌ"(2). التسامح خطوة على طريق السلام السيّدة أزهار عبد الجبّار/ موظّفة مكتبيّة: إنّ النظرة الواعية للحياة، تكشف للإنسان أنّ هناك علاقة وثيقة بين واقعه وواقع المجتمع، فمهما كانت قدراته وكفاءاته، ومهما حقّق من تقدّم وإنجاز، فسيبقى متأثراً بالوضع العام لمجتمعه، لذا ينبغي أن يدور تفكيره في ضمن محورين: البناء الذاتيّ، والإسهام في البناء العام للمجتمع. فالتسامح خطوة مهمّة على طريق السلام والاستقرار في المجتمعات، هو صمّام الأمان الذي ينزع فتيل الثقافات والسلوكيّات العدائيّة في التعامل مع الأفراد والشعوب، وعنصر أساس في تقرير وضع المجتمع، فإذا كانت شبكة العلاقات الاجتماعيّة سليمة صحيحة كان المجتمع مهيّئاً للتقدّم والانطلاق، لذا فأيّ حركة نهوض لا يمكنها أن تغفل شأن العلاقات الاجتماعيّة التي إذا ما كانت سليمة سوف تنعكس إيجاباً على مختلف جوانب الحياة، فالمعرفة والفكر والاقتصاد وحالة الأفراد النفسيّة تتقدّم في ظلّ أجواء الحرّية والتسامح, وأخلاقيّات الحوار واحترام الرأي، إضافةً إلى تعزيز مكانة المجتمع في أنظار الآخرين حينما يكون أكثر تماسكاً وانسجاماً. صعوبة التسامح دعاء أحمد/ طالبة دراسات دينيّة وموظّفة لدى مديريّة تربية كربلاء: التسامح ومصاديقه الحلم والعفو والتساهل، وعلى الرغم من هذه المصاديق الأخلاقيّة المتكاملة في التسامح وهي خُلُق نبويّ عظيم فإنّ هناك صعوبة فيه لأسباب، منها عدم مسامحة الشخص لنفسه ولومها على ثقته بالآخرين، وفقدان تلك الثقة بالآخر، والشعور بالألم بين الحين والآخر، والأمر الآخر أنّنا نفتقد كثيراً من صفات اللين والحلم بداخلنا، فنشعر بالاستياء الدائم من الشخص المسيء، وإذا تسامحتَ مع الشخص المسيء فستجذبه إلى صفاتكَ الخُلُقية التي على الشخص المتسامح التحلّي بها، لكنّ هناك أمراً آخر، فعلى الرغم من تحلّي الشخص بصفات التسامح إلّا أنّه تكمن صعوبته في طبيعة الموقف الذي يحدّد هل نسامح ونعفو أم لا؟ ومَن أراد القرب الإلهيّ فعليه بالعفو: (..وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى..)/(البقرة: 237)، نسأل الله أن يمنّ على الجميع بالحلم والعفو والتقوى. سامح من أجل نفسكَ لا من أجل الآخرين، فالإنسان عندما يعفو يشعر بالراحة والطمأنينة، وبكلّ تأكيد أنّ الله سيجزيه خيراً على حسن خُلُقه وعفوه، إذ قال الله في كتابه الحكيم: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)/(النور: 22). هل للتسامح وجود في حياتنا؟ رحاب القزويني/ مدرّسة في الحوزة العلميّة: نعم له وجود فهو خُلُق يرتبط بتهذيب النفس وبلوغها إلى درجة من الوعي والإدراك والكمال تجعل الفرد غير مبالٍ بسفاسف الأمور، وهذا الأمر قد وصل إليه أفراد من البشر بغضّ النظر عن عقائدهم وانتماءاتهم الفكريّة والإيديولوجيّة لمعرفتهم بقيمة العفو والتسامح في الحياة، لذلك نرى مجتمعات من الشرق والغرب قد ساد فيها مبدأ التسامح، بل هم سعوا إلى تطبيقه عملياً لآثاره الصحيّة في الفرد والمجتمع وفي مفاصل الحياة كلّها، وفي المقابل نرى بعض مجتمعاتنا لا تزال ترزح تحت وطأة ثقافة العنف من قبيل الأخذ بالثأر وإثبات الذات والثأر لكرامة القبيلة و..، وهذا يرجع إلى قلّة الوعي الدينيّ والابتعاد عن منهج القرآن الكريم والعترة الطاهرة(عليهم السلام)، اللذين يحثّان باستمرار على العفو والتسامح والحلم وكظم الغيظ ونبذ الانتقام كقوله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)/(آل عمران:134). وقوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)/(فصلت: 34). وقد حفلت حياة المعصومين الأربعة عشر(عليهم السلام) بالعفو والتسامح مع الصديق والعدوّ، بل الإحسان إليهم، ففي حادثة سقوط الإبريق من يد الجارية على رأس الإمام الكاظم(عليه السلام) وشجّه، فالجارية كانت موالية من شيعة الإمام(عليه السلام)، وعلى أثر هذه الحادثة لم يعفُ الإمام(عليه السلام) عنها فحسب بل أحسن إليها وذلك بعتقها لوجه الله. فبالعودة إلى القرآن الكريم والعترة الطاهرة(عليهم السلام) والتمسّك بهما وتهذيب النفس والغلبة على أهوائها ونبذ الأنا نصل إلى حبّ الآخر، فمثلما يرجو العبد رحمة ربّه وعفوه فلا بدّ من أن يكون هو متسامحاً مع الآخرين؛ لينال رضاه وعفوه. .............................................. (1) الإمام الحسين(عليه السلام) ونهج التسامح: ص126. (2) مستدرك الوسائل: ج11، ص263.