رياض الزهراء العدد 165 أنوار قرآنية
سُورَةُ العَادِيَاتِ وَالحَقَائِقُ المُغَيَّبَةُ...
سورة العاديات سورة ذات مقاصد متعدّدة تصبّ في معنى واحد بآياتها الإحدى عشرة. فهي تبتدئ بالقَسَم بالخيول العادية في سبيل الله (عز وجل) بكلّ قوّتها مثيرةً الغبار من حولها، مثلما ذكرت بعض صفات الإنسان السلبيّة كالكنود والجحود والبخل، وإيقاع السورة سريع ومعفّر بالتراب كسرعة تلك الخيول الغازية في سبيل الله (عز وجل)، التي توازي على الجانب الآخر سرعة الإنسان اللاهث وراء حطام الدنيا، واختُتمت السورة بإيقاع هادئ: (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (العاديات:11) فهو الخبير بمَن يُسرع في سبيل الله (عز وجل)، ومَن يسرع إلى طلب الدنيا. ومن فضائلها ما رُوي عن النبيّ (صل الله عليه وآله) أنّه قال: "مَن قرأ هذه السورة أُعطي من الأجر كمَن قرأ القرآن....."(١) وعن الإمام الصادق (عليه السلام): "مَن قرأ سورة العاديات وأدمن قراءتها بعثه الله مع أمير المؤمنين يوم القيامة خاصّة"(٢)، واختلف المفسّرون في مكيّتها ومدنيّتها، ولكنّ الرأي الصائب أنّها مدنيّة. (٣) وتعلّل مَن قال بمكيّتها بقِصَر آياتها والتذكير بالآخرة، وتعلّل بعضهم بسبب نزولها وهي تسابق الإبل في المزدلفة، وقال آخرون بأنّها تُقسم بالخيل الغازية، وشرّقوا وغرّبوا فيها كثيرًا ليطمسوا معالم مدنيّتها؛ فالجهاد والحجّ شُرّعا في العهد المدنيّ. والواقع أنّ سورة العاديات نزلت في (٢٤) من جمادى الآخرة من العام (٨) للهجرة أثر وقعة ذات السلاسل، وسميّت بذلك بحسب ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): "... وسُميّت هذه الغزوة ذات السلاسل؛ لأنّه أُسِر منهم و قُتِل و سُبِيَ و شُدّ أسراهم في الحبال مكتّفين كأنّهم في السلاسل ... "(٤)، وهي سريّة بعث بها النبيّ (صل الله عليه وآله) إلى وادي (يابس) حيث جمع بنو سُليم (١٢ ألف) راكب في الوادي تعاهدوا على قتل الرسول (صل الله عليه وآله)، وإبادة المسلمين، فبعث النبيّ (صل الله عليه وآله) جيشاً أكثر من مرّة ولكنّهم يعودون بالخيبة، حتّى أرسل النبيّ (صل الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) لقتالهم، فاتّخذ الإمام (عليه السلام) التدابير العسكريّة اللازمة، فسلك طريقاً مختلفاً، وكان يسير ليلاً ويكمن نهاراً، وكمّم أفواه الخيول كي لا يُسمع صهيلها، حتّى وصل إلى مقربة من الوادي من دون أن يشعر بنو سُليم، وصعد بالجيش على قمّة الجبل، وانحدروا بخيولهم بعد صلاة الصبح بسرعة فائقة نحو الوادي حيث مساكن بني سُليم، وهاجموهم بغتة، فكان عنصر المباغتة والمفاجأة سببًا رئيسًا في نصر المسلمين، وإدخال الرعب في قلوب المشركين، فمهنم مَن فرّ، ومنهم مَن أُسِر، ونزلت بذلك السورة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام)أنّه قال: "... و لمّا نزلت السورة خرج رسول الله (صل الله عليه وآله) إلى الناس فصلّى بهم الغداة و قرأ فيها و العاديات، فلمّا فرغ من صلاته قال أصحابه هذه سورة لم نعرفها، فقال رسول الله (صل الله عليه وآله): نعم ! إنّ عليّاً ظفر بأعداء الله وبشّرني بذلك جبرائيل في هذه الليلة"(٥)، تلهّف النبيّ (صل الله عليه وآله) لعودة وصيّه، فلمّا رآه الإمام عليّ (عليه السلام) ترجّل عن فرسه، فقال له النبيّ (صل الله عليه وآله) مربّتًا على كتفه: "اركب فإنَّ اللّه و رسوله عنكَ راضيانِ" وقال قولته الشهيرة: "يا عليّ لَولا أَنّي اُشفقُ أن تقولَ فيكَ طوائف مِن اُمّتي ما قالت النصارى في المسيح لقلتُ فيكَ اليوم مقالاً لا تمرُّ بملأ من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميكَ"(٦) وما نراه من تشويه لمعالم هذه المعركة ما هو إلّا محاولات بائسة لطمس فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) وشجاعته، وتغطيةٍ على إخفاق بعض شخصيّاتهم في إحراز النصر للمسلمين. ............................... (١) تفسیر البرهان: ج8 ، ص 360. (٢) تفسير نور الثقلين: ج 10، ص 192. (٣) تفسير الميزان: ج٢٠، ص 195. (٤) تفسير مجمع البيان: ج10، ص 422. (٥) المصدر السابق. (٦) الإرشاد: ص 57-59.