رياض الزهراء العدد 165 تنمية البشرية
عُودُ الكِبريتِ
هل تعتقد أنّ عوداً واحداً من الكبريت من الممكن أن يرسم لوحة حياتكَ بصورة كاملة؟ لنتأمّل سويّةً هذا المشهد الممكن الحدوث في أيّ مكان: في إحدى الليالي تنطفئ كلّ الأضواء، والكلّ يقبع في مكانه بلا حَراك خوفاً من التعرّض للأذى، ثم يأتي المدد عند لمس علبة كبريت مهترئة وكأنّها غيث من السماء يروي الأرض الجدباء، وإذ بداخلها عود كبريت واحد فقط. هنا يأتي دور عمليّة التفكير التي إمّا أن نستثمر عن طريقها الإمكانات المتاحة للخلاص من الضيق والأذى والخروج إلى بحبوحة الإيجابيّة، أو الضياع بين أودية السلبيّة المقيتة، فنقوم بالتوكّل على الله تعالى ونُشعل العود الذي يعطينا الفرصة لثوانٍ معدودة، فكلّما كان الظلام دامساً أكثر، كلّما كانت الشعلة منيرة بشكل أوسع، تلك الثواني القليلة كفيلة بتسليط الضوء على الطريق الذي يتوجّب علينا المضيّ قُدماً فيه للوصول إلى الهدف المطلوب كالمصباح اليدويّ مثلاً، والذي عن طريقه سنصل إلى المبتغى إلى حين انقشاع العتمة. عود الكبريت هنا بمثابة الفرص التي يضعها الله تعالى في طريقنا، والتي ينبغي لنا استثمارها بالشكل الصحيح، كتلك الساعات التي تُقبل بها قلوبنا على الطاعات بكلّ رغبة واندفاع، فنشعر حينها بشغف كبير وبمشاعر لا توصف ونتقصّى كلّ أمرٍ يقرّبنا من الله تعالى، فتجدنا نبحث بنَهمٍ عن الوسائل المتاحة للوصول إلى تلك الغاية المنشودة، وما إن تغادرنا تلك السويعات حتّى تذهب بلا عودة قريبة، فنتجرّع بعدها مرارة الندم على ضياعها منّا، واستحضر هنا قول رسولنا الكريم (صل الله عليه وآله): "إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فتنفّلوا، وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة"(1)، إذاً علينا أن نتحيّن الفرص ونقتنصها من بين براثن العمر ونضيء بها ما تبقّى منه، فعلبة الكبريت المهترئة هي تلك الحياة الفانية التي تسير بنا نحو النهاية الحتميّة، وإشعال عود الكبريت هنا هو كالإقبال الذي يمنّ الله تعالى به علينا، والإنسان الفَطِن هو الذي يتعامل مع هذه الفرص التي لا تقدّر بثمن بالشكل الصحيح ويأخذها على محمل الجدّ، فيتوجّه إلى بارئه الرحمن الرحيم ليستزيد من البركات والفيوضات الإلهيّة، ويشحن تلك الطاقة الروحيّة لتصبح ذاته قبساً من نور يُترجَم في كلّ نواحي حياته، بدايةً من تنظيم أفكاره الحاليّة والمستقبليّة، ومروراً بتشذيب تعاملاته مع بيئته المحيطة، ووصولاً إلى الشوق الغامر للإقبال الآتي في القادم الجميل، ليعيد الكرّة من جديد مع التركيز على نقاط الضعف لديه لتتمّ تصفيتها ومعالجة رواسبها في أرجاء الروح. تلك الجذوة الروحانيّة التي ما إن قُذفت في القلب حتّى باتت تشعّ أملاً بالله وبتوفيقاته المستمرّة، فتصبح منارة يضيئها صاحبها بأفكاره التي تقرّبه من الله تعالى، فترشده إلى كلّ حبّ وتفاؤل وخير، ومِن ثمّ يهتدي بإشعاعها القاصي والداني. فلنكن ممّن يستثمر الفرص المواتية ولا يستهين بابسطها، فكلّما كان الظلام أدهمَ، كان عود الكبريت أكبر قيمةً وأثراً. ............................................ (1)ميزان الحكمة: ج10، ص 486.