رياض الزهراء العدد 165 الحشد المقدس
صَدِيقُ العُمْرِ
لا يزال ذلكَ الشَارع العريض يؤجّج أحزانه كلّما مشى فيهِ بضع خطوات، فيذرف دموع عينيه عند وقوفه أمام عمود الحديد الذي يحمل صورة جعفر صديقه الشهيد، وإن مضى على استشهاده سنتان، لكنّهما تبدوان كيومين... وكيفَ لا يكون كذلك وهو جاره القديم قبل أن يكون صديقه الحميم، بل أكثر من هذا، فهو مثل ظلّه الذي لا يفارقه أينما ذهب طوال تلك الأعوام التي قضاها مَعه، كم هي جميلة كجمال ملامح جعفر ذات الوسامة والهدوء، حتّى في حالات التعب والغضب لا يعتريها العبوس، وبخاصّة وقوفه عند باب صديقه، كلّ صباح ينتظر خروجه مِن البيت ليِوصله إلى المدرسة على درّاجته الهوائيّة؛ لأنّ طريق المدرسة كان بعيداً جدّاً، وفي نهاية الدوام يعود به إلى البيت مثلما أتى به، ثم يجلسان لمذاكرة واجباتهما اليوميّة بعد أخذ قسط من الراحة، وفي تمام الساعة السادسة عصراً يلعبان كرة القدم في الساحة المجاورة لبيتيهما، وهكذا كانت سائر أيّام السنة، حتّى تأتي العطلة الصيفيّة، حينها ينشغلان بالعمل في محلّ أسواق أبي جعفر للموادّ الغذائيّة، وفي يوم من الأيّام حصل ما لم يكن في الحسبان، حينما قرّر جعفر الانضمام إلى الحشد المقدّس دفاعاً عن أرض الوطن ومقدّساته، ولكن نزل القرار على قلب والديه كالصاعقة، مع هذا لم تتّم الموافقة عليه إلّا بعد جهدٍ كبيرٍ؛ لأنّه كان الولد الوحيد لهما، والابن البارّ الذي لم يفارقهما أبداً، ولكن شاءت الأقدار أن يأتي ذلك اليوم الذي يتركهما فيه، ليذهب مع رفاقه إلى جبهة القتال وسط دموع أمّه على فراقه، ودعاء أبيه الذي ظلّ واقفاً في الشارع وهو يحدّق بولده خطوةً بخطوة إلى أن وصل إلى بيت صديقه القريب منهم... وبعد كلام طويل دار بينهما وعِناق، التقط كلّ منّهما صورة للآخر لتكون ذكرى جميلة بمناسبة اليوم الأوّل الذي يلتحق فيه بالحشد، ثم بعد هذا غادر جعفر المكان يشقّ طريقه بسيارة رفاقه البيضاء، تاركاً خلفه حنيناً واشتياقاً، ولكن لم تمضِ إلّا أيام قليلة وإذا بسيارة وقفت أمام المنزل عليها جنازة فوقها صورة، تزاحمت عليها الورود رغم الشريط الأسود المتدلّي من جانبها، ولكن مع هذا لم تخفِ شيئاً من تلك الملامح، بل هي ذات الصورة التي التقطها له ببدلته العسكريّة التي كُتب عليها في جهازه (صديق العمر).