رياض الزهراء العدد 165 أروقة جامعية
آلامٌ مِن نُورٍ
معاناتُكَ الصغيرة في أعينِهم، الهائلة في عينيكَ، صعبةُ التصنيف، مستحيلةُ الوصف والشرح، الرافضة للاختصار والشكوى، تلكَ التي لا تُعالج بالعقاقير الطبيّة ولا بوصفات العطّارين، التي تنخر في عُمقكَ أنتَ فقط. تتآكل خلايا الحياة فيكَ، وتضمحلّ مصادر النور، وتتهاوى حصون الطاقة المتبقيّة لديكَ، وتتمايل بسببها روحكَ ذات اليمين وذاتَ الشِمال. للأعراضِ الصحيّة عجائبُ جمّة، أصعبها وأشقّها تلك التي تُرافق صاحبها بصمتٍ مُطبق، تزوره في كلّ حين بلا دعوةٍ مُسبقة، تقتحم جسده، وتعيثُ فيهِ هلاكاً ثمّ ترحل متلذّذةً بانتصارها اللئيم ذاكَ، لا تُعطي تنبيهاً لموعد الزيارة القادمة، لأنّها تهوى المفاجآت بطبيعتها، لا تعرف أصولاً ولا إتيكيت، فحينما يروقها الأمر تبقى مع صاحبها المغلوبِ على أمره طوال ساعاتِ النهار، وحينما يصحو ضميرها أو (المتبقّي منه) تُقلّص أوقات بقائها حسب مزاجها، ثمّ من ذا الذي يجرؤ على محاسبتها، فالبيت بيتُها والجَسدُ مِلكها. لا أحد يعلم عن تلك الثواني، والدقائق، والساعات، أو الأيّام التي تقضيها في جهادكَ المستمرّ لتتمّ مشاهدة فيلم، أو إكمال قراءة كتاب، أو التركيز على الدراسة استعداداً للامتحان، أو كفاحكَ لتبدو أمام مَن حولكَ بأنّكَ طبيعيّ جدّاً، وتُرغم نفسكَ على التفاعل والحديث معهم كأنّ عصافيراً تشدو في أُذنيكَ. كثيرةٌ هي الأحيان التي تضطرّ فيها إلى الكذب حين يسألون عن حالكَ فتبتسم وتقول: بخير. بل بكلِّ خير...! أنتَ لا تشكو، ليس لأنّ الأمر هيّن، ولا لأنّها مرحلة وستمُرّ، بل لأنّ الأمر برُمّته لا يُشكى ولن يتفهّمه أحد، الأمر أكثر تعقيداً من أن يُفسّر بكلمات، وأكثر تعباً من أن يُوجز، إنّها مسألةٌ رياضيّة مُقلقة، مُعادلةٌ مُربكة، وعالمٌ خاصٌّ بصاحبه. إنّها معركتُكَ أنتَ، وميدان قتالكَ وحدكَ، أنتَ مَن ستختار أن تقضي، أو يُقضى عليكَ، وحدكَ مَن يُقرّر الخطوة القادمة، أنتَ مَن عليكَ أن تعرف قيمةَ نفسكَ المتألّمة، قيمة أوجاعكَ وكفاحكَ، أن تعرف كم أنتَ رائع وأنتَ تجتاز الأيّام متّشحاً بالضرر، لكنّكَ تجتاز العقبات بأعجوبة، بينما أولئك المُترفون، أصحاب الأجساد المُعافاة، ينتظرون أن تجتازهم العوائق بذاتها، أولئك الذين يقنطون منذ الصفعة الأولى، ويجعلون من الوجود عبئاً ثقيلاً لا يُطاق. قال تعالى: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) (يونس:21). أنتَ مختلفٌ عنهم، لا تزال تتنفّس، تُقاوم لأجل هذه النسمات، لا تزال تبحث عن ألف سبب للحياة، بينما يكتفي غيركَ بسببٍ واحد للقنوط ويتشبّثُ به. رائعٌ أنتَ، بسكينتكَ، بصبركَ الجبليّ، بمسعاكَ للتخفيف من آلام الآخرين وإن كانت أقلّ حِدّةً من آلامكَ. يتخلّلكَ نورٌ سماويّ، روحُكَ شفّافة، والله تعالى يبّث فيكَ الدفء فينعكسُ للعالمين.