هَل الاستغاثةُ بالأنبياءِ والأَئمّةِ عِبادةٌ لهم؟
قال محمّد بن عبد الوهاب: "من الشرك أنْ يستغيثَ بغيرِ الله أو يدعوَ غيره، وقول الله(سبحانه وتعالى): (وَلا تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِين)/(يونس: 106)، ... فيه مسائل... الثالثة عشر: تسميةُ تلك الدعوةِ عبادةٌ للمدعو"(1)، وللردِّ على هذه الشبهة لابدّ من بيانِ معنى العبادة: العبــادةُ لُغـــةً: "العبوديّةُ: إظهارُ التذلّل، والعبادةُ أبلغُ منها؛ لأنّها غايةُ التذلّل"(2). ومن الواضحِ عدمُ إمكانِ التعويلِ على المعنى اللغويّ للعبادةِ في فهمِ المعنى الشرعيّ لها، وإنْ بلغَ الخضوعُ مُنتهاه والتذلّل أقصاه؛ وإلّا لكانَ اللهُ(سبحانه وتعالى) أولَ من أمرَ بأنْ يُشرَكَ به حينَ أمرَ الملائكةَ بالسجودِ لآدم(عليه السلام)! وكيفَ يأمرُهم بعبادةِ غيره، وهو القائلُ(سبحانه وتعالى): (وقَضى ربُّكَ ألّا تَعبُدوا إلّا إيّاهُ)/(الإسراء: 23)، فهل يُعقَلُ أنْ ينهاهم عن شيءٍ ويأمرُهم به؟! إذنْ للعبادةِ مُقوِّمٌ آخر مهمّ سوى الخضوع، وهو الذي أخرجَ سجودَ الملائكةِ لآدم(عليه السلام) من خانةِ الشرك، وهو الاعتقادُ بألوهيّةِ المخضوع له، فالعبادةُ اصطلاحاً: (هي الخضوعُ للشيء بما أنّه إلهٌ)(3)، أي مع الاعتقادِ بأنّه إلهٌ، فهيَ تتألّفُ من ركنين لابُدّ من توافرهما معاً، وإلّا ما كانتْ عبادة: الخضوع والتذلّل أولاً، والاعتقادُ التامّ والجازمُ بألوهيّة المخضوع له ثانياً. وعليه يُمكنُنا الردّ على هذه الشبهةِ بأنّ الاستغاثةَ بالأنبياءِ والأئمةِ(عليهم السلام) لا يُمكِنُ أنْ تُعدَّ عبادةً لهم، لتجرُّدِها من الاعتقادِ بألوهيّتهم، وقد أكّدتِ العديدُ من الأدلّةِ على مشروعيّتِها، منها: * قولُه(سبحانه وتعالى) حاكياً قصّة المؤمنِ الذي استغاثَ بموسى(عليه السلام): (فَاستَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ)/(القصص: 15). ولا فرقَ عندَ جميعِ المسلمين -ما عدا ابن تيميّة والوهابيّة- بينَ كونِ المُستغاث به حيّاً أو ميتاً؛ فإنّ الاستغاثةَ بغيره(سبحانه وتعالى) لو كانت شركاً لكانَ المُستغاثُ به معبوداً، سواء كان حيّاً أو ميتاً. * ما رُويَ عن الصحابيّ ابن حُنيف: "شهدتُ رسولَ الله، وأتاهُ ضريرٌ فشكى إليه ذهابَ بصرِه،...فقالَ له النبيُّ(صلى الله عليه وآله وسلم): اِئتِ الميضأة، فتوضّأْ، ثم صلِّ ركعتين، ثم ادعُ بهذه الدَعَوات. قال ابنُ حنيف: فواللهِ ما تفرَّقْنا وطالَ بنا الحديثُ حتى دَخَلَ علينا الرجلُ كأنّه لم يكنْ به ضرّ"(4). وكان قد علَّمَ ابنُ حنيف ذلك العمل لرجلٍ له حاجةٌ فقُضيتْ له بفضلِه، وأمّا الدعواتُ: "اللّهمّ إنّي أسألُكَ وأتوجّه إليكَ بنبيّنا محمّدٍ نبيّ الرحمة، يا مُحمّدُ إنّي أتوجّهُ بكَ إلى ربّكَ أنْ تقضيَ حاجتي"، وتذكُرُ حاجتكَ، لاحظ الاستغاثةَ بقوله: (يا مُحمّد).. * في حديثِه عن قبرِ الإمام الرضا(عليه السلام) يقولُ ابنُ حِبّان - وهو مَن قال الحاكمُ النيسابوريّ فيه: "كانَ ابنُ حِبّان من أوعيةِ العلمِ في الفقهِ واللغةِ والحديثِ والوعظِ ومن عُقَلاءِ الرجال-"(5): "قد زُرتُه مِراراً كثيرةً. وما حلّت بي شدّةٌ في وقتِ مقامي بطوس، فزُرتُ قبرَ عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام)، ودعوتُ اللهَ إزالتَها عنّي، إلّا اُستجيبَ لي، وزالتْ عنّي تلك الشدّة. وهذا شيءٌ جرّبتُه مراراً، فوجدتُه كذلك، أماتَنا اللهَ على محبّةِ المُصطفى صلّى الله عليه وعليهم وأهلِ بيته أجمعين"(6). .................................. (1) التوحيد: ص32و33. (2) المفردات: ص319. (3) العبادةُ حدُّها ومفهومُها: ص22و27. (4) المعجم الكبير: ج9، ص30. (5) مشاهير علماء الأمصار، ابن حبّان: ص13. (6) كتاب الثقات: ج8، ص457.