رياض الزهراء العدد 166 أنوار قرآنية
أوّلُ الوَحيِ، وَعيٌ
هناك في تلك الصحراء المترامية الأطراف التي يجول البصر فيها وفي جبالها الصخريّة للتأمل في عظمة خالقها، وفي غار من مغارات جبل (النور) الذي يدعى بـ (غار حراء) انبثق حدث استثنائيّ غيّر مجرى التاريخ، ربط الخالق بالمخلوق، ربط السماء بالأرض، حَدَثُ البعثة النبويّة بنزول الوحي الإلهيّ بأول آيات القرآن المنزّلة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم الإثنين ٢٧ من شهر رجب للعام ٤٠ بعد عام الفيل. ومن الجدير بالذكر أنّ هناك ثلاثة أقوال ذكرها المفسّرون في أول القرآن نزولًا: ١- الآيات الخمس الأولى من سورة العلق. ٢- سورة المُدّثّر. ٣- سورة الفاتحة(١). والقول المشهور عند أغلب المفسّرين هو القول الأول(٢). مثلما رُوي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: أول ما نزل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "بسم الله الرحمن الرحيم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)، وآخره (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)"(3). والآيات الخمس الأولى من سورة العلق اختصرت منهج الرسالة والحياة بمفرداتها وموضوعاتها المترابطة، فأول مفردات الوحي وآيات القرآن: (اقْرَأْ)؛ ليرتقي المجتمع الذي أُرسل إليه، ذاك المجتمع الذي اتّصف بالأميّة والجهل، والمظاهر غير الإنسانيّة كالظلم ووأد البنات والربا وغيرها، إلى مستويات ثقافيّة أعلى تحفظ للإنسان كرامته بما هو إنسان واعٍ لحقوقه وواجباته في الإسلام. (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)/(العلق: 1)، وذكر(سبحانه وتعالى) صفة الربوبيّة والخالقيّة في أول آيات القرآن الكريم نزولًا ليُذكّر الإنسان بربّه العظيم وحقيقة خلقته في الآية الثانية: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) والعَلَق: (الدم المنجمد، والمراد به ما يستحيل إليه النطفة في الرحم)(٤)، وعادت الآية الثالثة لتكرّر الأمر بالقراءة: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) الذي أكرم الإنسان بما جاء في الآية الرابعة: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي تعليم القراءة والكتابة والعلم، وكذلك: (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) في الآية الخامسة هنا يبيّن الله(سبحانه وتعالى) أنّه مهما بلغ الإنسان من شأوٍ عظيم في العلم فهو من تعليم الله(سبحانه وتعالى) له، وهو القائل: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)/(يوسف: 76)، كي لا يغترّ الإنسان الذي خلقه الله(سبحانه وتعالى) من علق بعلمه الذي علّمه إيّاه ربّ العزّة والجلالة. وعند التأمّل في مفردات هذه الآيات الخمسة نجد القراءة، والقلم، والتعليم ومن ثمّ الكتابة؛ لأنّ القلم أداة الكتابة للارتقاء بمجتمع الجزيزة العربيّة البدويّ القبليّ الطبقيّ إلى حضارة إسلاميّة عريقة تُبنى على أساس العلم والثقافة والتحضّر في السلوك الإنسانيّ. فالأمّة التي تبدأ ارتباطها بالسماء عن طريق القراءة والتعليم والقلم والكتابة، لهي أمّة واعية بوعي رسالتها وشريعتها السمحة، ولهذا تسمّى أمّة الإسلام بـ (أمّة اقرأ)؛ لرفعة رسالتها وحضارتها بالقراءة والاطّلاع. ولا يخفى على أحد بأنّ القراءة قد تكون ماديّة عن طريق المطالعة والبحث، وقد تكون معنويّة بقراءة الأحداث بنظرة ثلاثيّة الأبعاد -إن صحّ التعبير- وقراءة ما بين السطور؛ ليعرف المؤمن تكليفه في الأحداث الواقعة بفراسته وذكائه. وبالنتيجة فإنّ أول الوحي من آيات القرآن الكريم هو منهج لحياة الإنسان الذي يجعله في تكامل ماديّ ومعنويّ. والتكامل الماديّ الذي يشمل تكامل العلقة في رحم الأمّ إلى جنين ثم طفل ثم شخص بالغ، وهو التكامل البيولوجيّ لجسم الإنسان بخالقيّة الله(سبحانه وتعالى) وقدرته، وكذلك التكامل المعنويّ الذي يرتقي بهذا الجسد الإنسانيّ إلى أعلى درجات المعرفة بأدواتها، وهي القراءة والكتابة والقلم والتعليم، وهو هدف الرسالة الإسلاميّة بزرع الوعي في الأمّة. ............................................... (١) راجع تفسير مجمع البيان: ج١٠، ص٣٥٥. (٢) راجع تفسير الميزان: ج٢٠، ص٣١٥. (٣) تفسير البرهان: ج١، ص٢٩. (٤) تفسير الأمثل: ج٢، ص١٨١.