البِعثَةُ وَالرَّحمَةُ النَبوِيَّةُ

أ.م. راغدة محمّد المصريّ/ لبنان
عدد المشاهدات : 192

الرحمة النبويّة منشؤُها الرحمة الإلهيّة، تلازمت الرحمة مع البعثة المحمديّة؛ لتعطيها البعد الإنسانيّ، والحضاريّ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)/(الأنبياء: 107)، فتجلّت رحمة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في سيرته، وما حملته من مُثل إنسانيّة نبيلة، وفضائل ورقيّ خُلُقي: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)/(القلم: 4)، جمّل الرسول محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) البناء القيمي، وصاغ عقداً اجتماعيّاً جديداً ارتكز فيه على القِيَم الأخلاقيّة المشتركة: "إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق.."(1). ويعكس القرآن الكريم مسار البعثة، ويعطيها الديمومة والاستمرار، ويُبعد عنها صفة الثبات والجمود لما تشكّله من منتج معرفيّ، وعقديّ، وحضاريّ، ينبع منه المفهوم القيميّ للرسالة الإسلاميّة؛ ليعبئ نسقًا من القيم الإنسانيّة، فيُكوّن نبضًا حيًّا لسلوك الأفراد والجماعات، قادرًا على الإسهام في بناء الشخصيّة الإنسانيّة في كلّ عصر، عن طريق مجموعة قواعد عمليّة نظّمت التعامل البشريّ بمختلف جوانبه ومواضيعه ومستوياته؛ لتُمكّن الإنسان من السير والارتقاء إلى الكمال، والتخلّق بالأخلاق الإلهيّة. فانطلقت البعثة المحمّدية من الدعوة إلى التوحيد بتعزيز الارتباط بالله(سبحانه وتعالى) وتنمية الرقابة الداخليّة والتزكية، والتعليم ونشر المعرفة، ومحاربة الجهل والأنانيّة، والتعصّب الجاهليّ، بالتحرّر من كلّ أنواع الوثنيّة والشرك، فعملت على بناء الفرد عن طريق تبيان أهميّته ودوره: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)/(البقرة: 30). فتحت البعثة المحمّدية آفاقاً جديدة في فهم الحقوق والواجبات، وعدم فرض قيود على الآخرين، ممّا يتيح تحوّل الأفراد والمجموعات إلى مزيد من التمدّن، ويؤصّل من قيمة الحريّة والأخلاق الفاضلة على أساس المشترك الإنسانيّ بين الأمم والشعوب، والجماعات والديانات السماويّة: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)/(الحجرات: 13)، وأعطت مبايعة النساء للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) دلالة على التطوّر النوعيّ في القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة للبعثة في تعاملها مع المرأة: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)/(الممتحنة: 12)، حيث ارتقت بالمرأة للسير بها إلى مدارج التسامي والتكامل بدون تمييز بينها وبين الرجل: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ)/(آل عمران: 195). وتعدّ صحيفة المدينة أوّل تشريع إسلامي للعهود والمواثيق التي أكّد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) على احترامها والالتزام بها؛ لتحقيق الأمن والسلام، فشكّلت بذلك إحدى ظواهر الحياة الحضاريّة للتعايش السلميّ، وبيّنت علاقة المسلمين فيما بينهم، وعلاقتهم بغيرهم، وأظهرت التحوّلات التي أحدثتها البعثة، منها الانتقال من الانتماء القَبليّ إلى الأمة، والمواطنة والتعايش بين المسلمين وغيرهم، وحريّة المعتقد، ونصرة المظلوم، والتزام الدفاع عن المدينة، وردّ الاعتداء عن يثرب بأنّها مدينة أمن وعدل وسلام. وكان لـ (حجّة الوداع) الدلالة الواضحة لقيم الرحمة السماوية المتمثلة بالرسول الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) الممتدّة، والمستمرّة مع استمراريّة الرسالة بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، التي تجلّت في غدير خمّ، حيث أُكمل الدين وأُتمّت النعمة بإعلان وصيّه وخليفته الإمام عليّ(عليه السلام). جعلت البعثة السماوية من حماية الحقوق مقصدها الأسمى حتى يتفرّغ الإنسان للقيام بمَهمة الاستخلاف بعد أن كرّمه الله(سبحانه وتعالى). .................................... (1) بحار الأنوار: ج16، ص210.