شُمُوخُ الجَبَلِ
أسدل الليل أستاره، وبدأت السماء تزخر بالنجوم كاللآلئ المتناثرة على قطعة سوداء، وأشعّة القمر تسكب ضوءها بين سحب الدخان المتصاعدة من الخيام التي أحرقتها النار، أرض تملؤها العتمة، طافحة بالصمت ولا شيء سوى أجفان خاوية مُسدلة باستسلام فوق العيون، وجنود يطوفون حولهم بأسلحتهم. يوم عصيب مرّت ساعاته كسنين طويلة لا تريد أن تنقضي، وفي جوف الليل المُتعِب تجلس صامدة كصمود الزمن الذي لا ينهار، في صمودها هيبة ووقار استمدّتها من بيت انبثق منه الإيمان وانتشر إلى الأرجاء، تجلس وعيونها جفاها الرقاد، تحرس حرائر وأطفالاً باتوا منتشرين في العَراء، تتفقّدهم بين لحظة وأخرى عن طريق ضوء خافتٍ، مضت تبحث عن أقمار سقطت واختفت من حياتها. تخطو بخطوات مثقلة بهموم تنوء الجبال عن حملها، فاضطرّت إلى تحمّلها، وخطواتها تتعثّر بذكريات يوم ليس كمثله يوم في العالمين، يوم نزع الإنسان فيه إنسانيّته وأصبح كذئاب تريد أن تنقضّ على ثلّة حملت الدين كجمرة بين أكفّها، وتخلّت عن الدنيا وملذّاتها، واشترت الآخرة بأغلى ما يمكن. كلّ شيء جميل تحوّل إلى حطام وأنقاض متراكمة، سقط إخوةٌ وأبناء ورجال أقوياء، وبقي الحسين(عليه السلام) وحيداً في أرض غريبة وبعيدة، والتوق إلى معرفة مصير أخيها جعلها تعدو في ساحة القتال غير مكترثة بالأعداء المدجّجين بالسلاح، صعدت التلّة والشمس تبثّ أشعّتها بخجل، حدّقت في كلّ شيء بنظرات ثاقبة، لعلّها تعثر على ما تريد، لكنّها لم تجد ضالّتها، فرجعت إلى خيمتها عارفة أنّ هناك عاصفة قويّة آتية بعد هذا الصمت الرهيب. لحظات وإذا بالدنيا مُظلمة، والسماء باكية، الطيور فرّت من أعشاشها، والنار نشبت في الخيام وألسنة اللهب التهمت كلّ شيء، طفولة فارّة في البيداء تبحث عن سند، عن محامٍ لهم من هول ما يحدث، تفرّ صارخة تستغيث تريد أحداً، ولا أحد هناك سواها، هي تحمي هذا وتُنقذ ذاك من أنياب الذئاب، الخيول استباحت كلّ شيء، لم يعد هناك شيء مقدّس، سقطت الأشياء واحدةً تلو الأخرى كحبّات رمّان تناثرت على الأرض. راحت تعدو نحو أخيها، في تلك اللحظة توقّف كلّ شيء، وتجمّدت الأشياء، وحُبست الأنفاس، عيون تراقبها من كلّ حدب وصوب، لم يظهر على ملامحها أيّ انكسار وخوف، جلست بهيبة عند جسد أخيها المقطوع الرأس، المهشّم الأضلع، وضعت يديها تحته، ورفعته قليلاً إلى السماء قائلةً: "اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان"(1). صوتها حلّق في العلا ثمّ تشظّى إلى ذرات بأجنحة انتشرت بين السماء والأرض، أرعبت الأعداء وحطّمت كبرياء الظالمين، وهزّت أركان العروش الفاسقة، كلمات سُجِّلت على عرش ملكوت السماوات والأرض، بزغت الشمس على أرض الملحمة العظيمة التي انكسر فيها الإنسان لكنّه لم يُهزم، وأرض فاضت بها الأرواح المطهّرة، لكنّها تألّقت وخُلّدت إلى أبد الآبدين. ها قد حان وقت الوداع، بدأ الموكب يسير، نساء وأطفال ونياق وجمال، نظرت إلى السفر الطويل الذي يكون عنوانه السبي طريقاً لابدّ من أن تكون فيه صامدة كصمود الجبال؛ لتحمي الركب من سياط الأعداء، فكانت مثلما أرادت أن تكون درعاً حامياً وجبلاً شامخاً لا يأبى السقوط، حطّمت كلّ مَن أراد تحطيمها، وبقت منارة تتألّق بقبّتها في الشام رغم أنوف الطغاة. ....................................... (1) موسوعة عاشوراء: ج1، ص534.