نُورٌ وَظَلامٌ

منتهى محسن محمد/ بغداد
عدد المشاهدات : 161

في مكان مظلم حالك السواد قضى سنين عمره متنقّلاً من سجن إلى آخر مُجبراً مُكرهاً، إلّا أنّ وجهه الدريّ صار شعاع النور الذي يملأ أرجاء المكان وهو بين قيام وقعود، لم يكن يريد من الدنيا شيئاً، ولم يفكّر بها على أنّها دار مقام، بل كان يقول: "مَثَل الدنيا مثل ماء البحر، كلّما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله"(1). - وعلى متكآت وحرير وفُرش اعتاد الجلوس ينتظر أوامره خدّامه وعبيده، ينعم بالحياة على بهرجها وزخرفها تفتنه الجواري الناعسات وهنّ يتراقصنَ أمامه في مجالس اللهو والفجور، وتشدّه الدنيا بوصال السحر حتى يترنّح ثَمِلاً من شدّة التعلّق والهوى. - لم يترك التسبيح والتهليل آناء الليل وأطراف النهار في سجود وقيام، وقد شاركته جدران طامورته همهمات دعائه، ونفحات أنفاسه الملكوتيّة التي ملأت أرجاء المكان مسكاً وعنبراً، وانتشر شذى أحرف دعائه طيباً وبلسماً. - لم يبارح كرسيّه المرصّع، كان ينظر إليه مليّاً، يخاف عليه ومنه، أمّا عليه فخوفاً من أن يستحوذ عليه مناوئوه الذين يفوقونه بالخُلق والدين والنَسَب الشريف, وأمّا منه فخوفاً من أن يؤدّي شغفه وولعه به إلى فقدان رقبته وإراقة دمه، فظلّ بين هذا وذاك يعيش لحظات ممزوجة بالخوف والخبث والترقّب. نَحُل جسده الشريف، ولم يكن زاده سوى خبز ولبن، ومع ذلك كان كثيراً ما ينسى طعامه في لحظات ذوبانه مع بارئه، ولم يكن في تلك الطامورة ليدرك ليله من نهاره من شدّة الظلمة التي هو فيها، فكان يقول لسجّانه: أخبرني متى ما وجبت الصلاة، وكان ذلك همّه الدائم وشغله المستمرّ. - على مائدة طعام الملوك تتنوّع المأكولات، وتزيد عن الحاجة المطلوبة، تُقدّم الصفائح المليئة باللحوم وتنتشر رائحة الشِواء في الجوار ليتلقّاها الناس رغم المَخْمَصَة التي يشعرون بها، فضلاً عن الفواكه الطازجة وصحون الحلوى التي يشتهيها جلالة السلطان، ولا بأس بأن تُرمى بقايا الطعام على قارعة الطريق بعد أن يتناول منها الملك ملعقة واحدة، يتذوّق جلالته لُقيمةً واحدةً بملعقة الذهب، بينما يتضوّر الشعب من لظى الجوع والقحط. - داوم على عبادته وشكر بارئه، تاركاً الدنيا وما فيها من ملذّات، فساءهم ذلك ففكّروا بغوايته، وأرسلوا إليه جارية حصيفة لها جمال وضّاء، فردّها قائلاً :"بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها"(2)، وذهل خادم الملك لمّا رآها بعد مدّة ساجدة لربّها لا ترفع رأسها وهي تقول: "قُدّوس سبحانكَ سبحانكَ"(3). هكذا يمضي كلّ على شاكلته، يحفل سجلّه بالباقيات الصالحات، أو يثخنه بالذنوب والمعصيات، ويبقى التاريخ شاهداً وحاكماً على الصلاح أو الفساد. وها هي مدينة الكاظميّة تزهو بأنوار قُبب الجوادينِ(عليهما السلام) ومنائرهما، وصارت بقاعهما جنّة الأرض تَؤمّ الملأ، وتجمع الوافدين تحت خيمة الهدى والإيمان والنهج القويم، فأين يا تُرى صار مثوى المتجبّرين؟ وأين أضحت أجسادهم التي اندثرت عفناً بعدما أكلها الدود واندرست في غياهب أهل الظلم والجور؟! ...................................... (1) تُحَف العقول: ص303. (2) مناقب آل أبي طالب: 3 / 415. (3) بحار الأنوار: ج48، ص238.