فَضفَضاتٌ
كنتُ ولا أزال أؤمن بأنّ الإنسان يمتلك سيلًا من التدفّق الروحيّ أثرًا يوازي أثر جميع المخلوقات على هذه البسيطة، بل الكون بأجمعه.. الروح.. الروح! هذا الشيء الهُلامي.. الغيمة البيضاء التي تتحكّم بنا.. التي تسيطر على هذا الجسد الطينيّ الثقيل، لِكَم تساءلتُ وأتساءل عن أشكال أرواحنا الحقيقيّة.. كيف هي يا تُرى ملامحنا الأصليّة؟ هل تشبه هذا القالب الماديّ الذي وُضِعت فيه؟ هل تمتلك أيّة ألوان معيّنة مثلما يحدث لألوان بشرتنا الآدميّة؟ هل هي مجرّد ضوء يخفت ويقوى بدرجة عمل المرء ونقائه، ويزداد بياضًا وخفّة بشكل طردي معه؟ هل لأرواحنا من عطر..؟ من صوت..؟ كيف تتغلغل النصوص المقدّسة إلى داخلها؟ الآيات القرآنيّة.. التراتيل الدينيّة.. أحاديث المعصومين(عليهم السلام)؟ أشعر أنّهم يمتلكون قوة نورانيّة سرعان ما تتشرّبها الروح كقطرة ماء سقطت على منديل فينكمش، بسببها تألف المرء، أو تبغضه مهما كان وجهه جميلًا، فقد يخلق الله(سبحانه وتعالى) توأمين بالملامح والتقاسيم ذاتها، لكنكَ تميل إلى أحدهما بخلاف الآخر حينما ترى وتلحظ طيبة هذا مقابل غلظة ذاك، فتأنس بالأول وتنفر من الثاني.. قد أختفي وسط الجموع كي لا يلاحظني أحد.. لا أبتعد بل أقترب أكثر وأكثر، تمامًا مثلما نبحث عن ضوء الشمس وهو يتخلّل وريقات باقة ورد مرميّة على ضفّة نهر.. فقد يكون الحضور الخفيف أقوى من الظهور الطاغي، وأشدّ وقعًا في الأنفس والقلوب.. الضوء ذاك هو ما يجعل الباقة تلمع! الشتاء.. هو ذلك الصندوق الذي نخفي فيه جميع حكاياتنا المنسيّة.. العلبة الفارغة ذات المساحة الشاسعة التي تشعرنا بعدم الدفء، كلّ القصص الباردة التي قمنا بلفّها بقماش مخمليّ أحمر طامعين في أن يُعاد نبض الحياة إليها من جديد، نجدها لا تزال ترتجف من الصقيع منذ أن وُلِدت هناك.. لا تزال في داخل كلّ منّا فكرة.. حلم.. أمنية.. تراوده منذ سنين، تجلس في داخل عقولنا ككهل مريض نحيل قضى جلّ عمره في قصره النائي متأملًا عبر زجاج نوافذه العملاقة الحياة خارجًا على وقع انعكاس لهيب شموعه الخافتة..