مُلَاءمَةُ المُفرَدَةِ القُرآنِيَّةِ لِلمَقَامِ وَجَمَالِيَّتُهَا

آمال شاكر الأسديّ/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 191

حقّقت المفردة القرآنيّة جماليّات عديدة، فمن تلك الجماليّات ملاءمتها للمقام الذي ترد فيه، فالقرآن الكريم دقيق في اختيار ألفاظه، فكلّ كلمة كاللبنة في البناء، ولا يصلح غيرها موضعها حتّى لو تقارب المعنى؛ لأنّ لكلّ كلمة دلالة خاصّة وإيحاءً خاصّاً وانسجاماً في التركيب(١) فبعض الألفاظ أحقّ مِن مرادفاتها أن تقع في جملة من الجمل، ومن ذلك ما ورد في قوله (عزّ وجل): (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) (آل عمران:٣٥) استعمل لفظة البطن ولم يستعمل لفظة الجوف مع أنّهما سَواء في الدلالة، ووزنهما واحد وهذا يعود إلى الدلالة الإيحائيّة لكلّ من اللفظتين، فمادّة كلّ منهما تختلف بعض الاختلاف عن مادّة اللفظة الأخرى، فمادّة الجوف توحي بالضمور والانحسار ولا سيّما بما يرسمه حرف الجيم والواو الساكن والفاء من دلالة إيحائيّة، بخلاف مادّة البطن التي توحي بالبروز والنتوء، وهي أنسب للحمل من مادّة (الجوف)(2)، ومن الموارد الأخرى لهذه الملاءمة ما نجده في سورتي الأعراف والنساء في قوله (عزّ وجل): (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) (الأعراف:١٧١) فاستعمل لفظة (الجبل)، وفي سورة النساء قوله (عزّ وجل): (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) (النساء:١٥٤) فاستعمل لفظة الجبل في سورة الأعراف، ولفظة الطور في سورة النساء، ولمّا كان الجبل أعظم من الطُور فهو اسم لِما طال وعظم من أوتاد الأرض(3)، فناسب اللفظ معناه في مقام الشدّة والهول، وبيان المقدرة العظيمة بخلاف الطور الذي لا يشترط معنى الجبل(4)، وذهب الدكتور فاضل السامرائيّ إلى أنّ كلمة (الطور) كلمة غير عربيّة في الأصل، بل هي سريانيّة فاستُعملِت الكلمة غير العربيّة في الأصل مع غير العرب وهم بنو إسرائيل، أمّا لفظة الجبل فوردت في بني إسرائيل وغيرهم(5)، ومن المعايير الجماليّة أيضًا دقّة انتقاء المفردة القرآنيّة، فأشار الرافعيّ إلى هذا بقوله: "فإنّكَ تجد اللفظ في القرآن الكريم قارًّا في موضعه؛ لأنّه الأليق في النظُم والأوسع في المعنى والأقوى في الدلالة"(6)، ففي قوله (عزّ وجل): (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) (يوسف:١٧) معروف إنّما يُستعمل مثل هذا في فعل السباع خصوصًا الافتراس، افترسه السبع، أمّا الأكل فهو عامّ لا يختصّ به نوع من الحيوان دون نوع، لذا فإنّ الافتراس معناه في فعل السبع القتل فحسب، وأصل (الفَرْس) دقّ العنق، والقوم إنّما ادّعوا على الذئب أنّه أكله أكلاً وأتى على جميع أجزائه وأعضائه فلم يترك مفصلًا ولا عظمًا؛ لأنّهم خافوا مطالبة أبيهم إيّاهم بأثرٍ باقٍ منه يشهد بصحّة ما ذكروه، فادّعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة، و(الفَرْس) لا يُعطي تمام هذا المعنى، فلم يصلح على هذا أن يعبّر عنه إلّا بالأكل، على أنّ لفظ الأكل شائع الاستعمال في الذئب وغيره من السباع(7). ................................. (1) الإعجاز القرآنيّ مفاهيمه، وجوهه: ص ٢٠٩. (2) جماليّة المفردة القرآنيّة عند ضياء الدين بن الأثير: ص ٢٨-٢٩. (3) لسان العرب: ج2، ص170. (4) بلاغة الكلمة في التعبير القرآنيّ: ص٩٨-٩٩. (5) من أسرار البيان القرآنيّ: ص٤٦-٤٧. (6) إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة: ص175. (7) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن: ص٤١.