رياض الزهراء العدد 167 الحشد المقدس
الرُّوّادُ
"الرائد لا يكذبُ أهلَه" مثَلٌ عربيٌّ قديم استعاره النبيّ محمّد (صل الله عليه وآله) حين أتاه الأمر الإلهيّ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214) مُكنّياً عن نفسه (صل الله عليه وآله) بالرائد. والرائد في اللغة: هو مَن يتقدّم القوم يُبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث(1)؛ فقد كانت حياة العربيّ في الصحراء عبارة عن ترحالٍ دائم، بحثًا عن مصادر الحياة. ولكلّ قوم رائد أو أكثر، يسبق القافلة ويتفحّص الطريق، ويدلّ أهله على مواقع المياه، من آبار وواحات، ويحذّرهم من الشرور والأخطار. والرائد لا يكذب أهله، أي لا يكذب عليهم؛ لأنّ في ذلك هلاكه وهلاكهم جميعاً وقد وضعوا ثقتهم فيه. وفي رحلة الحرب لابدّ من روّاد يتقدّمون الزحف، ويؤمّنون السبيل لرفاقهم المقاتلين، فصحراء الحرب أشدّ خطرًا، وأكثر فِخاخًا ومجاهل، كيف لا وقد زرعها العدوّ بالألغام، وشوّه جانبيها بالعبوات الناسفة، ممّا جعل تخطّيها مستحيلًا لولا جهود الباسلين من فِرق الجهد الهندسيّ، الذين يتقدّمون القطعات العسكريّة يتفحّصون الأرض، ويطهّرون كلّ شبر منها، حرصًا على أرواح المقاتلين، وخوفًا من أن يُثلم النصر بفقد المزيد من الأبطال والأحبّة. فكم اندفع أبطال الجهد الهندسيّ متقدّمين صفوف البنيان المرصوص من المقاتلين، يتفحّصون الطريق، ويواجهون فِخاخه الغادرة بأرواحهم الباسلة، وبقلوبهم التي صاغها الله (عزّ وجل) من حديد عزمه، كاشفين مكائد الأعداء ومطهّرين الأرض من كمائن الشرّ، راسمين للنصر خارطة، لا يتوانون ولا يتردّدون، شعارهم: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) (التوبة:51)، ولهم شهدت أرض الوطن بالصفاء، وحفظت لمسات أناملهم امتنانًا، فهذه (جرف الصخر) بجهودهم استحالت إلى (جرف النصر)، وتلك تكريت والأنبار تدين لهم بالعزّ والفخار، وتلك الموصل الحدباء حفظت لهم صور الإيثار والعطاء، وهم يزيحون الأشواك عن الورد، ويعيدون إلى الوجوه ابتسامتها، وإلى الحياة أمنها وسكينتها، عُدّتهم الشجاعة والإيمان، وحليفهم دعاء إمام الزمان(عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، ودعاء أهلهم وأبناء بلدهم الذين عقدوا عليهم الآمال، ففتحوا بدفاعهم أبواب النصر، ومهّدوا سبيل التحرير. إذ: (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب:23)، حتّى بلغ الشهداء منهم جنّات الفردوس، وأقعدت الجراح بعضهم وقيّدته بسلاسل الإعاقة، بعد أن أوصلوا جيش الحُماة إلى مشارف النصر، وبلغوا بأهلهم ووطنهم محطّة الأمن والسؤدد. ................................... (1) المعجم الوسيط: ج1، ص793.