رياض الزهراء العدد 167 أروقة جامعية
نُسَمِّيهَا أُصُولاً
تركب حافلةً فترى شابّة تنهض من مكانها لتفسح المجال للشيخة، وعندما تسير في ممرّ ضيّق ترى الرجال واقفين في الزاوية متكوّرين على أنفسهم ليسمحوا للنساء بالمرور، لا تسمع صوت الهاتف بعد الغروب، تحيّي الجار الجديد بصينيّة طعام، لا تذهب إلى مكان لأول مرّة خالي الوفاض، لا تزور أحدهم بدون إشعار مسبق، لا ترى ولا تسمع ما يحصل في بيوت الآخرين، ولا تتفحّص مظاهر الآخرين وبيوتهم... هذا وغيره من اللمسات التي تضفي وَهَجاً على العيش البسيط كان جزءاً من عاداتنا، جزءاً من طريقة عيشنا، لم نكن نحتاج إلى التفكير فيه للقيام به، بل كان مثل التحيّة، مثل الطعام والشراب، وكنّا نسمّيه أصولاً، ونتوارثه عبر الأجيال، ثم اختفى، اختفى بدون رجعة، وأصبحنا نرى الأصول تكلّفاً وحملاً ثقيلاً لا نقوم به ولا نستقبله من الآخرين، كيف ولماذا ومنذ أيّ نقطة بدأ هذا؟ لا جواب منطقيّ، فلا الحروب ولا الفقر ولا الأمراض ولا عسر الحياة جعلت الأجداد يتخلّون عن الأصول، فالحروب في وقتهم كانت حروب سلاح، وكان أثر الحرب مدمّراً أكثر، وكان الفقر هو المظهر الطبيعيّ في الحياة، والأمراض منتشرة والعلاج غير معروف والطبّ بدائيّاً، ولا ترفيه ولا وسائل راحة، ولا آلات ذكيّة تزيد من سرعة العمل، إذن ما الذي اختلف؟ من المهمّ معرفة الأسباب إن أردنا وضع العلاج، وإذا لاحظنا المجتمع المعاصر فهو يفتقد إلى أربعة أمور، وهي الصبر والإيثار والتحمّل والامتنان، وهذا بسبب شيوع الراحة والرفاهيّة كشيء أساسيّ في كلّ تفاصيل الحياة اليوميّة المعاصرة، فالأصول بحاجة إلى الصبر على عدم الراحة بالوقوف طوال الرحلة رغم تعبكَ لتمنح مقعدكَ لشيخ، وأنتَ بذلك تقدّم مصلحة غيرك على مصلحتكَ، ومن ثمّ تحمّل عواقب التخلّي عمّا هو لكَ من فُرص ومزايا وتبعاته، وألّا تنتظر الامتنان من الآخر مهما كان حجم مراعاتكَ له، بينما يحتاج الآخر أن يتحلّى بالقدرة على إظهار الامتنان الصادق والتقدير، وأن يلتزم هو أيضاً بالأصول في مواقف أخرى لتستمرّ دائرة المراعاة هذه بلا توقف. لا يمكننا إعادة الزمن إلى الوراء أو ترك وسائل الراحة، لكن بإمكاننا التدرّب على الصبر أكثر، ومحاولة تقديم الآخرين علينا أحياناً وإن كان فيه إقلاق لراحتنا، وأن نتحمّل الصعاب الصغيرة قبل الكبيرة بقوّة أكبر، بل ألّا نرى كلّ ما نمرّ به كصعاب ومشاكل، علينا أيضاً أن نشكر الآخرين شكراً ودوداً وحقيقيّاً، وأخيراً أن نكون بذلك قدوة للآخرين، لأنّ وجود القدوة أمر ضروريّ في زمن كثرت فيه الأمثلة الشهيرة الفارغة على وسائل التواصل الاجتماعيّ.