هَل الإنسانُ مجبورٌ على الهِدايةِ أو الضَّلالِ؟
يعتقد المؤمنون الموالون - تبعًا للإسلام الحقّ- بعدلِ الله(سبحانه وتعالى)؛ ولذا فهم يرفضون عقيدة الجبر لما تقتضيه من نسبة الظلم إليه(سبحانه وتعالى)، إذ كيف يعذّبُ الإنسانَ العاصيَ بنارِ جهنم، بعدَ أنْ يجبرَه على ارتكاب المعصية؟! ولكن ربّما تُشمّ رائحةُ الجبر من بعض العبارات على لسان عوامّ الناس منهم نحو تعليقهم على الشخص الضالّ بقولهم: (الهداية من ربِّ العالمين)، أو ربّما تحدِّثُ البعضَ أنفسُهم بمضمون تلك العبارة؛ لحيرتهم في فهم بعض الآيات الكريمة كقوله(سبحانه وتعالى): (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يشاءُ ويَهدِي مَنْ يشاءُ)(إبراهيم: 4)، وفي كلتا الحالتين تتشكّلُ في أذهانِهم شبهةٌ إنْ تُرِكت دونما علاجٍ فإنّها قد تؤثِّر في عقيدتِهم سلبًا دونما يشعرون ولو على المدى البعيد. إنَّ منشأ ذلك يعودُ إلى فهمِ الهُدى والضلالِ على أنّهما مفهومان متواطئان، أي على مرتبةٍ واحدةٍ فقط؛ فلا يوجدُ إلّا هدىً واحد وضلالٍ كذلك، على حين أنّهما مفهومان مُشكّكان، أي لكُلٍّ منهما عدّةُ مراتب؛ لقوله(سبحانه وتعالى) : (..إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)(الكهف: 13)، و (..إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)(الفرقان: 44). وعليه، يُمكنُ القولُ إنَّ هناك نوعين من الهداية، هما: الهداية العامّة والهداية الخاصّة، فأمّا الأولى فتشملُ جميعَ أفراد الإنسان، وهي بدورها تنقسم إلى قسمين: *الهداية التكوينيّة: أبرزُ أمثلتِها إيجاده(سبحانه وتعالى) مقدّمات الهداية للإنسانِ من حواسٍّ وعقلٍ وفطرة، قالَ(سبحانه وتعالى) : (..وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ..)(الملك: 23). *الهداية التشريعيّة: هي إرشادُ الإنسانِ إلى ما فيه صلاحُه وتحذيرُه عمّا فيه هلاكُه، كإرسالِ الأنبياءِ وتنصيبِ الأوصياءِ وتشريعِ التشريعاتِ وإنزالِ الكتب، قال(سبحانه وتعالى) : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم)(الشورى: 52). فمَن اهتدى بالهدايةِ العامّةِ من الناسِ واستفادَ منها على الوجهِ الأكمل، ولم تُحرِفْه عنها عواصفُ المحن، أو تُزلّه مُزِلّاتُ الفتنِ جعلَ من نفسِه محلّاً مُناسبًا لتلقّي الرعايةِ الإلهيّةِ الخاصّة المُتمثّلة بالهدايةِ الخاصّة، قال(سبحانه وتعالى) : (والَّذِينَ اهتَدَوْا زادَهُمْ هُدًى)(محمّد: 17). وأمّا مَن لم يلتزمْ بالتشريعِ الإلهيّ فهو ضالٌّ باختياره، وقد تعلّقت المشيئةُ الإلهيّةُ أنْ تتركَه في طريقِ الضلالةِ الذي اختارَه بإرادتِه، ممّا يُسبِّبُ ذلك ضلاله وانحرافه بصورةٍ أشدّ؛ لأنّه كلّما توغّلَ الإنسانُ في الانحراف ازدادَ بعدًا عن الحقّ، وذلك معنى الإضلالِ الإلهيّ، وهو ليسَ بقبيح؛ لأنَّ المنعَ لم يترتّبْ لولا مُخالفة العبدِ شروطَ حصوله على الهدايةِ الخاصّةِ باختيارِه، قال(سبحانه وتعالى) : (فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَومَ الْفاسِقينَ)(الإنسان: 3)، وعليه، فإنَّ فهم قوله(سبحانه وتعالى): (..فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يشاءُ ويَهدِي مَنْ يشاءُ..)(إبراهيم: 4)، وأمثاله على أنَّه جبرٌ من الله(سبحانه وتعالى) للناس على الهدايةِ والضلال خطأٌ عقديٌّ فادحٌ، بل هو عينُ نسبة الظلم والقبح إليه(سبحانه وتعالى)؛ وذلك لأنَّ الهداية في الآية المباركة وأمثالها هي الهداية الخاصّة التي يستحقّها فقط مَن اهتدى بالهداية العامّة، وأمّا الضلال في هذه الآيات فهو تركه (سبحانه وتعالى) مَن لم يهتدِ بالهداية العامّة، وعدم شموله بالهداية الخاصّة، لا ظلمًا منه(سبحانه وتعالى)، بل لأنّ المكلّف نفسَه قد حرمَ نفسَه منها باختياره، فلا جبر من الله(سبحانه وتعالى) على كُلٍّ من الهداية والضلالة؛ لأنّه يخالف حكمته(سبحانه وتعالى)، ولأجل ذلك فقد ختم(سبحانه وتعالى) الآية بقوله: (..وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(الجاثية: 37).