العَارِجُونَ

رقيّة حسين عبد اللّه/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 244

الشُهداء نُفوسٌ تغربلت ولم يخرجْ من غربالها إلّا شَرار من ضياء، عرجوا بسرادق من نورٍ نحو سماواتِ المعشوق، تاركينَ في صدورنا غُصّةَ حُزنٍ لا يُستطاعُ إمضاؤها، وقلوباً قَرِحة وأفواهاً ضامِزَة تَصيح: "يا لَيتنا كُنّا مَعكم"، علّقونا بأذيالِ ردائكم، لا تُغلقوا وراءكم بستان الشهادة. بعض الأسئلة فضفاضة لغاية العجب، لا تكتفي بالشُروح المُبسّطة والأحاديثِ المُختصرة، بل تتفرّعُ إلى عدّة أفرع، وتأخذ ألف منحىً وزاوية، فما تكادُ تُنهي الإجابة بحديثٍ، إلّا وتراكَ مُسترسلاً في حديثٍ آخر، هكذا هي بعضُ الأسئلة، مثلُها كَمثلِ سلّم عبور، عتباتهُ مُتراصّةٌ فيما بينها، ومترابطة بإحكام ومرسّخة، ما إن تُهدم عتبةٌ واحدة إلّا وتتداعى باقي العتبات، فهذه الأسئلة تحتاج إلى أجوبةٍ متراصّةٍ مُحكمة، كي يُنقل الجوابُ بصورةٍ كاملة وصحيحة من غير تنقيصٍ أو قُصور، هي أسئلةٌ فَسيحةٌ ومُنفرجة، لا تكتفي بالإجابات أحيانًا، بل تنبش ما في الصُدور، كسؤال: "كيف يُنتجبُ الشهداء"! الشهيدُ هو مَن تسنّم على ودائع صُدورنا، وملك شغاف قلوبنا، فكان طيبهُ كالشجرة الميكاليّة في قرار المجد والعلى، أصلها ثابت وفرعُها في السماء، وهو قلبٌ قد علا في الأرض بطيبه ورأفته، كان حنانهُ ينهمل على رفقته والمساكين مثلما تنهمل وُريقاتُ الخريف على ذريرةِ الأرض فَتمورُ بها الريحُ الحنون، ومثلما يهطلُ المطر من وَجناتِ الغُيوم، يَركبُ بعضهُ بعضاً متدافعاً من شدّة الازدحام، هكذا كان حنانه يهطل، كان يأخذهم باليمين، ويركنهم على الرأس والعين، جعل من نفسهِ جدارًا صُلباً أسند به كُلّ مسكين، شخصٌ أُلقِي الصوابُ في روعه، فحنكته مصائرُ الأمور ومعارف الدهور، فابرنشقت له البقاعُ والطيور وكلّ ذي روح، كان يُرقع خرق قلوبنا بظرافته ويجبُر فطر الصدور، طرّزَ بالظلامِ رداءً للنهار، فأنار بذلك دُروبنا وأوقد مصابيح الوهج في قلوبنا، وأثقل بالمِنَنِ ظهورنا وصدورنا، في زمنٍ تذبذب الخلق فيه، (فهُم بين شريدٍ نادٍّ، وخائفٍ مقموع وساكتٍ مكعوم وداعٍ مُخلص وثكلان موجَع قد حملتهم التقيّة، وشملتهمُ الذلّة، فهم في بحرٍ أجاج هائج، أفواههم ضامزة وقلوبهم قرِحة)*، قد أدرك غاية الخلق وقد عَلِمَ أنّ هذه الدنيا قد أفلت، والآخرة قد أقبلت بجنودها، والنارُ تأجّجت بزفيرها، ولم يبقَ من هذه الدُنيا الواهنة إلّا صبابةٌ كصبابة الإناء، وإنّها قد ولّت حذاءً، لذا قد رغب في أن يكون من أبناء الآخرة، ولم يشأ أن يكون من أبناء الدنيا، فقد علم أنّ كلّ ولدٍ سيلحقُ بأمّه يوم القيامة. ذاك هو الشهيد.. * شرح نهج البلاغة: ج2، ص175.