رياض الزهراء العدد 168 منكم وإليكم
بَوصَلةُ الإنسانِ الدَّاخِليَّةُ
الإنسان هو كائن اجتماعيّ بفطرته وفي تعامله، يجب أن تكون له حدود سواء مع نفسه أم مع غيره... ومع تقدّم الزمن وانضوائنا تحت ظلّ السرعة والتطوّر، وبسبب عدم تخصيص أوقات للخلوة مع النفس، أضحى قليلاً ما يلتفت الفرد إلى نفسه ويخاطبها، والنتيجة كالآتي: لو تخيّلنا هناك دائرة كبيرة وفي وسطها دائرة الهدف فالدائرة الكبيرة هي تفكير الإنسان وانخراطه في محيطه وهواجسه، والدائرة الصغيرة هي التي تعود إلى ذاته، والتفكير هو وسيلة العقل لتحقيق غاية معيّنة، فالعقل هو الموجّه للتفكير حيث يشاء لا العكس، وبسبب انشغالنا وعدم كبح جماح التفكير، أصبح العقل ضحيّته وأصبحت أفكارنا تغرس أنيابها في كلّ شيء حتى في المحذور. شبابنا اليوم محصورون في هذه الحلقة، وعدم وعيهم بأنّ التفكير إذا لم يُكبح جماحه يصول يميناً وشمالاً، ويمنع المرء حتى من النوم بهدوء... وهي مشكلة العصر (الأرق)، قال المشرف على دراسة الأرق، وأستاذ علم النفس الإكلينيكيّ، (دانييل فريمان): إنّ "مشاكل النوم شائعة جداً بين مَن يعانون من اضطرابات ذهنيّة لمّا كانت هناك استهانة بالأرق لفترة طويلة، باعتباره عرضاً وليس سبباً". نعم لقد كرّم الله الإنسان بالعقل وجعله أشرف مخلوق، فالعقل هو القائد الذي يوجّه التفكير كيفما يشاء لا العكس! وإنّ الإسلام دين دقيق جداً لم يترك شاردة ولا واردة إلّا وأحاطها بعلمه، وهذا ما يفسّر قوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)(الكهف: 49). فالإنسان محاسب حتى في طريقة تفكيره،.. ألا يستحقّ هذا الموضوع أن ننتبه إليه قبل أن تأكل النار الحطب؟! لقد خصّص الباري أوقاتاً للصلاة لتوحيد بوصلة النفس واتجاهها إلى ربّها ولتطمئنّ بذكر خالقها.. هذه الأوقات من شأنها أن تجعل النفس مطمّئنة ومتعلّقة بخالقها، ومن الأشياء الأخرى التي تجعل التفكير غير مشتّت هو ترك الإنسان ما لا يعنيه، فقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "من حُسن إسلام المرء تركه الكلام فيما لا يعنيه"(1)، وقال الإمام عليّ (عليه السلام): "لا تعرض لما لا يعنيكَ بترك ما يعنيكَ".(٢) والرواية الأخيرة تجيب عن سؤال القارئ الذي قد يتساءل عن ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو سؤال مهمّ لكنّ الدين وأحكامه من الأمور التي تعنينا مثلما وضّح الإمام (عليه السلام)، إذن مصدر راحة النفس تركها ما لا يعنيها وابتعادها عمّا يُعرف بـ (الفضول)، ومن ثمّ محو الدائرة الكبيرة وما يترتّب عليها من كبائر الذنوب، مثل الغيبة والفتنة والنميمة وقتل النفس، ولقد مدح كتابنا العزيز هذه الفئة: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)(الفرقان: 72). نعم الشريعة الإسلاميّة في تعاليمها خصّصت ساعات لخلوة النفس مع بارئها، ومن ثمّ حينما يصفو التفكير من الشوائب يكون تفكيراً مباركاً؛ لأنّ العقل غايته صعود سلّم الكمال، ولا يكون ذلك إلّا بمعرفة الله سبحانه ومعرفة نبيّه وحجّته مثلما أشار (الدعاء في زمن الغيبة)، ومن دون ذلك تُصبح النفس أسيرة الضلال. .................................... (1) الأمالي: ج1، ص20. (2) ميزان الحكمة: ج4، ص33.