شَهادةٌ فَوقَ الشُّبُهاتِ

نجاح حسين الجيزاني/ كربلاء المقدسة
عدد المشاهدات : 171

هو المقتول ظلماً في بيت الله، وفي أشرف ليلة من ليالي شهر الله!! أوَ يُقال في حقّه: وهل كان عليُّ يصلّي؟! عجباً للحقائق كيف تُقلب وتغيّب بفضل أبالسة الشرّ، ودهاقنة السياسة الأمويّة الموغلة في الكذب والافتراء. خليفة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصيّه لا يضرّه قول المرجفين، ولا تزيده كثرة المتزلّفين، ولا توحشه فرقة الناس عنه بمقدار أنملة؛ لأنّه ببساطة عابد ذاب حبّاً في معبوده، وهو القائل: "والله لو كُشِف لي الغطاء لما ازددتُ يقيناً"(1). وما أدرى أهل الشام بعبادة عليّ (عليه السلام)؟! وقد تشبّعت أفئدتهم بمخافة السلطان، وامتلأت عقولهم بأضاليل أمرائهم، وهم ما انفكّوا يوهمونهم ويروّجون الإشاعات حول شخصيّة عليّ (عليه السلام) حتى ينفّروا الناس منه، ولكن هيهات أن تُطفأ منارة الوصيّ ويخفت ضوؤها، ومهما تعاضد أهل الباطل فإنّ نور عليّ (عليه السلام) يزداد ألقاً واتّساعاً... فكانت شهادته (عليه السلام) في مسجد الكوفة شهادةً فوق الشبهات، وبفضل شهادته هذه تساقطت كلّ الأقنعة التي كان الأمويّون يتخفّون خلفها، فهم لم يعرفوا مغزى العبادة الحقيقيّة. عبادة الإمام (عليه السلام) نابعة ومنبثقة عن علم ودراية امتزجت بالإخلاص لله تعالى، العبادة في عُرفه ليست معياراً لوزن الشخص، وإنّما عقله الضابط والمميّز له، حينها تكون العبادة شاخصاً جيّداً لمعرفة الناس وفهم درجة قربهم أو بُعدهم عن الصراط المستقيم، فإذا امتزجت تلك العبادة مع المسلك والخُلُق القويم كانت نِعْمَ العبادة، وعندها فقط تكون العبادة ضابطاً جيّداً، وهذا ما تعلّمناه من عبادة أمير المؤمنين (عليه السلام)، والتي كانت مزيجاً بين البكاء واللهفة لوصل المعبود في جوف الليل، وبين السعي إلى قضاء الحوائج ومداراة الفقراء في النهار، لقد عَظُم المعبود في نفسه، فصارت عبادته يقيناً كلّها؛ لأنّه استشعر أهليّة المعبود للعبادة، فارتقى بعبادته إلى أعلى درجات اليقين، ولقد كشف الإمام (عليه السلام) عن جوهر علاقته بالله تعالى بقوله: "إلهي ما عبدتكَ خوفاً من عقابكَ ولا طمعاً في ثوابكَ، ولكن وجدتكَ أهلاً للعبادة فعبدتكَ"(2). يحدّثنا أحد الرواة فيقول: "بتّ ليلةً عند أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكان يصلّي الليل كلّه، ويخرج ساعة بعد ساعة، فينظر إلى السماء ويتلو القرآن، قال: فمرّ بي بعد هدوء من الليل، فقال: يا نوف أراقد أنتَ أم رامق؟ قلتُ: بل رامق أرمقكَ ببصري يا أمير المؤمنين، قال: يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أولئك الذين اتّخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن دِثاراً، والدعاء شعاراً، وقرضوا من الدنيا تقريضاً على منهاج عيسى بن مريم"(3)، هكذا كان عليّ (عليه السلام) في قمّة تعلّقه بربّه، ثم يأتي مَن تسوّل له نفسه بالسؤال عن صلاته وعبادته، متأثّراً بالدعايات الأمويّة المغرضة!! ما كان حريّاً بأهل الشام بعد سماعهم نبأ الشهادة أن يقولوا قولتهم المشؤومة: وهل كان عليّ يصلّي...؟ بل كان حريّاً بهم أن يعودوا إلى أنفسهم فيسألوها: كم كنّا يا تُرى في غفلة وضلال؟ وكم كنّا مخدوعين بإعلام سلطاتنا؟ وكم استغفلتنا أراجيفهم وضلالاتهم؟ وحقاً قيل: الناس على دين ملوكهم، وكما تكونوا يولّى عليكم. ..................................... (1) الصواعق المحرقة لابن حجر: ص ١٢٩. (2) بحار الأنوار: ج41، ص 14. (3) بحار الأنوار: ج41، ص 16.