رياض الزهراء العدد 168 أروقة جامعية
حَياةٌ في صُورَةٍ
كلّ شيء في هذا الوجود يحوي طاقةً كامنة، ورؤية هذه الطاقة يعتمد على الطريقة التي تُستخرج بها، لذا فإنّ كلّ تفاصيل الحياة من حولنا تحتضنُ جمالاً من نوع مختلف، التصدّع الذي على الجدار، وطاولة الخشب المهترئة والمنكسرة، أصيص الزرع الفخاريّ القديم المغلّف بالنسيان، وصحن الفاكهة حين تغمرهُ شمس ما بعد الظهيرة، وهكذا دواليك. الاعتياد يولّد انعدام التجدّد في زوايا النظر، من الصعب أن ترى بأنّ ذلك اللحاف الفوضويّ على سريركَ قد يكونُ ذو تركيبة فنيّة...! ببساطة لأنّكَ تراه كلّ يوم، وكذلك مع كلّ تفاصيل المنزل من حولك. الأمر لا يتعلّق بكونها خالية من مسحة جمال، بل لأنّ المنظار الذي نُبصر عن طريقه ثابت، ولذات السبب نندهشُ أيضًا بالأماكن التي نزورها لأول مرّة، ولو بقينا فيها شهراً لأصبحت رتيبة ومملّة، الخدعة التي تُبعد هذه الرتابة هي إعادة آليّة النظر وزواياه، وتغييرها مُناط بمحاولاتنا لرؤية هذا الجمال، ويأتي التصوير هنا كأحد التراجم المُنصفة، والمباشرة لهذا الإبداع المُخزّن بين طيّات العالم الذي يضمّنا. العين البشريّة هي أكثرُ الكاميرات تطوّراً وإبداعاً، وهي التي ألهمت المبدعين والمخترعين ليحاولوا محاكاتها، ورغم كلّ هذا التطوّر المجنون الذي وصلت إليه التكنولوجيا وعدساتها بالغة الدقّة، إلّا أنّها لا تُجاري نظرتنا بالعين الحقيقيّة لكثير من المشاهد التي نراها بشاعريّة ودفء، التي لن تظهر لنا في آلة التصوير، وربّما ستظهر بطريقة احترافيّة، لكن ليس مثلما تُبصرها العين البشريّة على الإطلاق. التصوير وآلاته سلاح ذو حدّين، فهو يمكن أن يُستخدم كلُغة للأشياء غير الناطقة، أو يُصيبُ بالصمم الناطقة منها، وهذا يعتمد على المستخدم لها. فالكاميرا سلاحٌ ناريّ زناده زرُّ الالتقاط، سواء في كاميرا احترافيّة، فوريّة، رقميّة أو في كاميرا الهاتف الذكيّ، وغيرها... قد تقتلُ زهرة جميلة وأنتَ تصوّرها بسبب عدم مراعاة اتجاه الضوء، أو قد تجعل نبتة عاديّة تبدو مبهرة بسبب زاوية الالتقاط. يرى البعض أنّ التصوير مخادع، فكيف تنقلُ نسخةً مدهشة لشيء عاديّ جداً! ببساطة لأنّكَ تستخرج تلك الصورة من منظار جماليّ غير الذي اعتاده بصركَ، وهو أداة التصوير، إنّه التغيير الذي يحصل في طريقة نظرتكَ إلى الشيء، فبدلاً من أن تغيّره بصريّاً فقط، وتبدأ في التمعّن فيما ترى، فإنّكَ تستخدم آلة إضافيّة لوسيلة البصر التي تملك، والمختلف في الأمر هو أنّ هذه الآلة تستطيع أن تُجمّد اللقطة التي تروقكَ، وتحتفظ بها بشكل ملموس وليس ذهنياً فحسب. يرتبط التصوير بجوانب كثيرة من حياتنا، فهو يحتضن طفولتنا ويوثّق ذكرياتنا، الصور تشهدُ على أصحابها، تذكّرهم بما قد يتظاهرون بتناسيه، وتُنعش ذاكرتهم التي أتلفها الزمن، الصور تُؤنس وتُدفئ، تعانق وتُربّت، تُتأمل وتحكي، تقضي لياليَ طوالاً تحت وسادة طفل، أو في مذكّرة عاشق، تختبئ في جيبِ جُنديّ وتعرّف هويّة آخر مقتول لم تُبقِ الجراح من ملامحه شيئاً. الصور دليلٌ دوليّ يتوجّب وجوده في إثباتنا الرسميّ، وهي التي تتوقّف عليها أمور مصيريّة، إنّها تنصفُ مظلوماً وتُدين مجرماً، تمتّعُ مسافراً وتُبكي أمّاً، تشهدُ سعاداتنا وأتراحنا، هي ببساطة كلّ شيء، إن لم يكن التصوير شغفاً فينا، فإنّه المسيّر لحياتنا، هو الذي يكوّن المواقع، البرامج، التطبيقات الهاتفيّة، التلفاز، الإعلانات، الكتب، المجلّات، واجهات المتاجر وغيرها الكثير، فلا يمكن تخيّل الحياة بدون التصوير، ونحن قد بدأ خَلقنا في الأرحام به.