رياض الزهراء العدد 169 أنوار قرآنية
التَّناسُقُ الصَّوتيُّ فِي القُرآنِ الكَريمِ
اهتمّ القرآنُ الكريم بالمستوى الصوتيّ للمفردة، فامتازت بجمال الشكل والائتلاف في الحركات والسكنات والمدّات والغُنّات، وانسجام الحروف من حيث مخارجها وصفاتها، فتؤثّر في عقل المتلقّي ونفسيّته، يقول الرافعيّ: (وحسبكَ بهذا اعتباراً في إعجاز النظم الموسيقيّ في القرآن لترتيب حروفه باعتبارٍ من أصواتها ومخارجها ومناسبة بعض ذلك لبعضه مناسبةً طبيعيّة في الهَمس والجَهر والشدّة والرخاوة والتفخيم والترقيق والتفشّي والتكرير، وليس يخفى أنّ مادّة الصوت هي مظهر الانفعال النفسيّ، وأنّ هذا الانفعال بطبيعته إنّما هو سبب في تنويع الصوت بما يخرجه فيه مدّاً أو غنّةً أو ليناً أو شدّة وبما يهيّئ له من الحركات المختلفة في اضطرابه وتتابعه على مقادير تناسب ما في النفس من أصولها، ثمّ هو يجعل الصوت إلى الإيجاز والاجتماع أو الإطناب والبسط بمقدار ما يكسبه من الحدّة والارتفاع والاهتزاز وبُعد المدى ونحوها، ممّا هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى).(١) فتخلق بعض ألفاظ الآيات تنغيمًا صاعدًا ليعبّر عن دلالة الآية، ففي قوله(عزّ وجلّ): (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137)، اتّسمت لفظة (فَسَيَكْفِيكَهُمُ) بنغمة صاعدة نتيجة تكرار حرف (الكاف) فيها مرّتين وهو صوت حنكيّ شديد مهموس(2) يدلّ على الأحداث الشديدة ويرتبط بها لأنّه من الأصوات المدوّية، ويتعاضد مع حرفي (الميم) و(الفاء)، وهما من الأصوات الشفويّة،(3) فمجيء هذه الحروف موزّعة في لفظة واحدة خَلَق فيها تنغيماً مدويّاً يتوافق مع معنى الآية في تهديد مَن لا يؤمن بالله(عزّ وجلّ)وملائكته وتوعّده من جانب، ومساندة النبيّ وشدّ أزره في مواجهتهم وعدم التخوّف منهم من جانب آخر؛ لأنّ الله تعالى معهم، والمعنيان توافق معهما التنغيم المدوّي. وتأتي أصوات بعض المفردات في القرآن الكريم لتُساعد على الاستدلال، فالقوّة التعبيريّة للكلمة لا تتأتّى من معناها وحده بل من طبيعة شكلها الصوتيّ(4)، فالصوت والمعنى كلاهما مرتبط بالآخر ارتباطاً لا يقبل التفرقة،(5) ففي قوله (عزّ وجلّ): (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حتّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) (التكاثر: 1-٢)، تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن: (وقد تجد الصنعة البلاغيّة في استعمال (المقابر) هنا مجرّد ملاءَمة صوتيّة للتكاثر، وقد يحسّ أهل البلاغة ونحسُّ معهم فيها نسقَ الإيقاع بهذه الفاصلة، فهل تكون (المقابر) في آية التكاثر لرعاية الفواصل فحسب؟ واستعمالها هنا يقتضيه معنويّاً أنّه اللفظ الملائم للتكاثر الدالّ على مصير ما يتكالب عليه المتكاثرون من متاع دنيويّ فانٍ، هناك حيث مجتَمع القبور ومحتَشد الرِمم ومساكن الموتى على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم ودرجاتهم وأزمنتهم، وهذه الدلالة من السعة والعموم والشمول لا يمكن أن يقوم بها لفظ (القبور)، وهنا يتجلّى إيثار البيان القرآنيّ لفظة (المقابر) على لفظة (القبور)(6) فالصوت يتعاضد مع المعنى لإبراز التفاصيل، لا مثلما قال بعض الباحثين: (هذه الدلالة الصوتيّة ذات أثر ثانويّ)(7)، فالقرآن الكريم منظومة متكاملة من جميع المستويات. ........................... (1) مدخل إلى تفسير القرآن وعلومه: ص180. (2) سرّ صناعة الإعراب: ج1، ص٧٥. (3) الأصوات اللغويّة: ص٨١. (4) الأفكار والأسلوب: ص 45. (5) قواعد النقد الأدبيّ: ص ٣٩. (6) التفسير البيانيّ للقرآن الكريم: ج١، ص٢٠١. (7) نظرة جديدة في موسيقى الشعر العربيّ: ص٢٣٩.