(وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)
اتّصلت ناهد بالأستاذة فاطمة، وبعد السلام والتحيّة قالت: لديّ موضوع أودّ استشارتكِ فيه، فقد أسهر ليلي وأتعب بدني، وشتّت أفكاري، لعلّكِ تجدين مخرجاً لي وأعود مثلما كنتُ سابقاً تلك الإنسانة المفعمة بالمَرح والحيويّة القويّة أمامَ الصِعاب.. استمعت فاطمة لناهد وقالت لها مُطَمئِنَةً: تفضّلي إلى منزلي لنتحدّث في الموضوع. جاءت ناهد إلى منزل فاطمة واستقبلتها بابتسامة وكلمات بثّت في نفسها الهدوء والراحة. فاطمة: ما الذي غيّر ملامحكِ؟ تبدينَ أكبر من سنّكِ بكثير، وجهكِ شاحب وعيناكِ غائرتان. ناهد: إنّه القلق والاضطراب والضغوط النفسيّة، تفعل بالإنسان ما تفعل. بعد احتساء الشاي وأكل الكعك.. استئنفتا الحوار: فاطمة: سنتحاور بشأن ما ورد من آيات قرآنيّة وروايات لأهل البيت (عليهم السلام) عن الطمأنينة، لعلّك تجدينَ عن طريقها راحةً وسكينةً. فهناك مفردة قرآنيّة يمرّ عليها قارئ القرآن الكريم وفي عدّة سور، وفي سياق عدّة مواضيع ومحاور وردت مرتبطة بعدّة أحداث وأزمنة ومع تعدّد الشخصيّات وفي بيئات مختلفة، وهي (الطمأنينة). الكثير من الآيات سلّطت الضوء على هذا الموضوع ومن زوايا مختلفة، إلّا أنّها تتمحور وتلتقي عند عنوان عريض وهو الطمأنينة. ناهد: ما معنى الطمأنينة؟ فاطمة: هناك تعريف لغويّ وقرآنيّ، الطُّمأنينة لغةً: الثّقة وعدمُ القلق، اطْمأَنَّ: سكن وثبت واستقرّ. فالطمأنينة ليست السكون المطلق، وإنّما الاستقرار الذي يأتي بعد اضطراب وقلق، فالقلق والاضطراب ضدّ الطمأنينة، وقد جرّب الإنسان الاثنين، فذاق حلاوة الطمأنينة ومرارة القلق. ومساحة تجربته لكلّ منهما مختلفة من حيث القلّة والكثرة، فنلاحظ يا حبيبتي أنّ الطمأنينة هي الأقلّ وجوداً وحضوراً في حياة الأفراد والأمم، بينما القلق هو الأكثر شيوعاً وانتشاراً. والإنسان منذ القدم ولا يزال ينشد الطمأنينة ويبحث عنها، ومن هنا تكون الحاجة الملحّة للرجوع إلى كتاب الله تعالى الذي فيه تبيان كلّ شيء، ومن هذه الأشياء الطمأنينة، فهو يبيّن طريقها وروافدها وأهميّتها عن طريق عدّة آيات، منها قوله تعالى:( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة:260). ومن المؤكّد أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان ينشد طمأنينةً غير التي يبحث عنها الإنسان العاديّ، إبراهيم (عليه السلام) كان يريد أن يرتقي إلى درجة أكبر، فبطل التوحيد مُوقِن بالمبدأ والمعاد وأنّ الله تعالى هو المحيي. ناهد: إذن ما معنى طلبه: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ...)؟ فاطمة: إنّه كان يريد أن يصل إلى مرحلة الشهود ليرى بعينه. ناهد: لماذا؟ فاطمة: أجاب (عليه السلام): (وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي..)، ولتوضيح جواب إبراهيم (عليه السلام) نقول: أحياناً يصل الإنسان إلى مرحلة عالية من الإيمان، ومع ذلك لا يكون مستقرّاً ويزداد لهيب شوقه للوصول إلى مرتبة أعلى، ولا يسكن ولا يطمئنّ إلّا بالوصول إليها. إبراهيم(عليه السلام) لا يشعر بالاستقرار؛ لأنّه كانت هناك مسافة أخرى يريد أن يطويها ليتحقّق له استقرار أكثر واطمئنان أكثر ولذا قال: (لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي..). إذن يا عزيزتي الاطمئنان مراحل ودرجات ومسافات، وكلّما قطع المؤمن شوطاً وتذوّق حلاوة الاطمئنان تشوّق إلى طيّ المسافات اللاحقة. هذا إذا كان المؤمن صاحب همّة وإرادة وطموح، فكلّما حقّق حصّة من الطمأنينة سعى إلى حصّة أخرى، فالطمأنينة حاجة ضروريّة لا يستغني عنها إنسان. ناهد: جعلنا الله تعالى من ذوي الهِمَم العالية. يتبع...