غَيبَةُ الخَلِيفَةِ وَتَربِيَةُ الخَلِيقَةِ
ممّا ورد عن إمامنا الصادق (عليه السلام)، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «واعلموا أنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله عزّ وجلّ، ولكنّ الله تعالى سيُعمي خلقه عنها بظلمهم وجورهم وإسرافهم على أنفسهم، ولو خلت الأرض ساعة واحدة من حجّة لله تعالى لساخت بأهلها، ولكنّ الحجّة يعرف الناس ولا يعرفونه»(1). نجد في قول الإمام(عليه السلام) تأسيسًا لحقيقة (نفي) خلوّ الأرض من حجّة سَواء كان ظاهراً أو غائباً، و(إثبات) عدم حصول الانتفاع التامّ من وجوده من قِبل الخليقة بسبب الظلم والجور والإسراف الحاصل على أثر اتّباع الهوى وحبّ الدنيا، وفي ذلك (تِبيان) لعلّة من علل حصول غيبته عنهم، إذ إنّ فرصة الحضور الشخصيّ الماديّ قد تحقّقت لكلّ مَن عاش في زمن الأئمة السابقين b؛ فالغيبة لها صورتان: (غيبة معنويّة): تكون مرتبطة بالسلوكِ الفرديّ، فمَن لم تتحقّق فيه قابليّة معرفة عظمة الإمام، ولم يحقّق مستوى الطاعة والانقياد والامتثال له والسير على نهجه، فهو ممّن عَمِي عن رؤيته المطلوبة، ويعيش حالة الغيبة عن إمامه، وإن كان ممّن يراه بشخصه، ويعيش بقربه. وهناك (غيبة ماديّة) عندما يكون الظلم قد توسّع ليُصبح اجتماعيّا عامًّا، ومن هنا استوجب الأمر الإلهيّ تَغيّب الإمام عن الخلق أجمع - مثلما عبّر الإمام بأنّ الله تعالى يُعمي خلقه عن رؤيته - فهم سُلبوا توفيق رؤيته، لكنّه حاضر بينهم وله كامل الولاية عليهم؛ فمثلما أنّ النعمة تدوم بشكرها والإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) هو أعظم نِعم الله تعالى التي لم تنتفع منها الأمّة المسلمة بشكل خاصّ، والبشريّة بشكل عامّ، بل قوبلت هذه النِعمة بالقتل والأذى، ولأنّ الفَقْد من أهمّ الأساليب التربويّة، رفع الوجود الماديّ للحجّة المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) عنّا لنربّي أنفسنا على إدراك النعمة وشكرها. ومن هنا نفهم أنّ الغيبة تبقى غير شاملة للجميع، فمَن يكون مستعدّاً ومستحقّاً لن يشمله العَمى - مثلما في شواهد كثيرة - فهناك من تشرّف بلقاء شخص الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) وحظي برؤيته، مع أنّه (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) لم يخرج من غيبته بعدُ، بل إنّ تحقيق الشعور القلبيّ بعظم مقام الإمام، ومعرفة حقّه، وبمقدار تحقيق الطاعة له والشعور بالاحتياج إليه لهو وَصل ولقاء وقرب، وكاشف لحجاب الغيبة بمستوى الرؤية المعنويّة. فالإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) لا يغيب عنّا بكلّ الأحوال، إنّما نحن مَن نَغيب عنه ونطيل مدّة غيابه بأفعالنا، فمن رحمة الله تعالى ولطفه بنا فتح لنا باباً لإعداد النفس وتهيئتها؛ لتُحسن التعامل مع هذه النعمة في زمن الغيبة، مثلما جاء عن الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) بتوقيع صدر عنه(عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، قال فيه: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله»(٢)، وهم مراجعنا وعلماؤنا الربّانيّون، الذين هم امتداد لنهج الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) لنعود اليهم، ونأخذ عنهم، فبهم نختبر مدى انقيادنا وتسليمنا لخليفة الله تعالى في غيبته، وهم مرآة لطاعتنا له عند ظهوره. ........................... (١) الغيبة للنعمانيّ: ج14، ص2. (٢) بحار الأنوار: ج2، ص90.