جَدَّتي التي بَدَأَ مِنها كُلُّ شَيءٍ

مريم حسين العبودي/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 421

لم تمنحني الحياة الفرصة لأكون بقرب جدّتي، منذ طفولتي كنتُ أراها في وقتٍ قصير من السنة أو قد تمرُّ سنة كاملة بدون أن أراها. إنّ للجدّات قداسة جدران المساجد، تحوي في جوفها ابتهالاتٍ سماويّة، يحملنَ حكمة الحياة التي تراكمت فيهنَّ يوماً تلو الآخر. لطالما تأمّلتُ كيف يسبقنا كبار السنّ في المسير بينما لا نزال نحن في بدايته! كيف اجتازوا آلاف الخُطى بينما نحن لا نزال نترنّح في خطواتنا لا نثبت على سبيل! كيف يختزلون الحياة في أمثلة أو عبارات عامية بسيطة لكنّها فعلاً تختزلُ حياة كاملة! من الممتع أن تجلس مع رجلٍ أو امرأة خسرا كلّ شيء، واضمحلّ الشباب المستعر فيهم، تجعدّت ملامحهم، واشتعل الرأس فيهم شيباً، وتجرّدوا من كافّة الحدود والمخاوف، ولم يعد يهمّهم كيف يبدو شكلهم في المرآة، بل باتوا يتهرّبون من مواجهة ملامحهم المتعبة، لم يعد يهمّهم ما يرتدون وما يلبسون، وما يُقال أو يحدث في العالم، وصلوا إلى مرحلة اليقين بأنّ: «كلّ شيءٍ هالكٌ إلّا وجهه تعالى»، وما أعظمها من خلاصة! وما أسعد مَن اكتشفها في ريعان شبابه قبل أن تصفعه الحياة بها حين «يردّ إلى أرذل العُمر» وحين «لا يعلمُ بعد علمٍ شيئًا». إنّ في القرآن الكريم مواعظ تكفي لكلّ دقيقة من يومنا أن تُسيّرنا ونحن محصّنون بالحكمة قبل أن تفرضها الحياة علينا، أن تعرف أنّكَ هالكٌ وإنّه حيٌّ قيّوم، وأنتَ في جذوة فتوّتكَ خيرٌ من أن تجسّدها لكَ الحياة في وجودكَ، حيث لا يبقَى في عمركَ عمر لتبحث عن حقائق أخرى أو تخوض تجارب مختلفة، لقد وصلتَ إلى ذاك الطريق الفرعيّ الذي ينتهي بجدارٍ مرتفع، لا طاقة لكَ بتسلّقه فما تفعل سوى أن تستسلم؟! جدّتي تحبّني بدون قيد أو شرط، تحبّني بفطرة الأطفال، تُقبّل شاشة الهاتف كلّما حدّثتُها عبر «مكالمة الفيديو»، وتصلّي على النبيّ وآله فور رؤيتي، وتُتبعها بـ «أنا أحبّكِ»، جدّتي تعرف قيمة الحياة وقيمة الكلمة، لا بدّ من أنّها لم تكن بهذه البساطة في شبابها، وأنّ كلمات كهذه لم تكن تنساب منها بيُسر، جدّتي تعلّمت من الحياة أن تقولَ كلّ شيء بدون تفكير وتمحيص، وبدون مكابرة، بدون أنانيّة، كلّما رأيتُها أو حدّثتها، تبدأ الحديث بكلمات حبٍّ واشتياق عذبة... رائحة جدّتي تشبه الماضي، الحزن المعتّق في ثنايا ثوبها النظيف، كانت تأخذني إلى سنواتٍ لم أكن فيها، رائحة صابون الغار التي تغسل بها ملابسها بنفسها، خمارها الأبيض الذي ترتديه تارة والأسود تارةً أخرى... علّمتني جدّتي الصمت، كانت تقول دائماً: «الصمتُ أفضلُ للمرء»... أورثتني خِصالاً عديدة، أورثتني صبراً لا ينضب، رقّةَ قلبٍ ودمعةًِ مرتجفة متأهّبة للهطول، أورثتني عنايتها الفائقة بنظافتها، عطرها الليلكيّ الذي لا يفارقها، سريرها الذي تعتني بوضاءته، علّمتني جدّتي الدفء، حين منحتني إيّاه بفطرتها النقيّة. تُحبّ جدّتي أن تفتح النوافذ والأبواب، أتعبها ضيق الدنيا فلا تحبّ البقاء في أماكن مغلقة تماماً، تحبّ الشمس وتحرص على أن تجلس لوحدها كلّ يوم تحت شمسِ الصباح. لطالما تساءلتُ عمّا يشغل بالها وكيف تُراها تُفكّر في مثل هذا العمر. تضيقُ بنا الدنيا يا جدّتي، فأيُّ نوافذَ نفتح لتتّسع؟