رياض الزهراء العدد 170 الحشد المقدس
الذِّينَ يَعرِفُونَ كَيفَ وَمتى يَمُوتُونَ
الرزَحُ اجتاح جسده وتفكيره.. لم يتوقّع يوماً أنّه سيُتقن الحديث المتلهّف مع نفسهِ، أو نظرة العشق التي يغمر نفسه بها رغم عدم فهمه لتفاصيلها غير المُفسّرة، وما كان يضيق صدره حتّى وضع يده عليه وراح يحدّث إمامه بكلّ سعادة. أمات حضوره في الدنيا ليُدفن في أرضها وبأعماقها المتشابكة بخيوط ذكرياته عليها.. حُفرَ قبره بالطريقة نفسها التي حُفر بها اسمه على ألواح الشهداء لدى ملك الموت.. جليس وحدته (الكافل (عليه السلام) رغم البعاد.. وأنيس أفكاره التي لازمته طوال تلك المدّة (القاسم (عليه السلام) ولا يزال يُلوِّحُ لكي يلقاهم جميعاً.. كانت ألحان عشق لم يستطع أحد أن يقدّمه له سوى الأمر السماويّ الصادر من بين أعمدة ضريح الحسين (عليه السلام)، لم يستطع أن يمنع نفسه من إكمال تلك الخطبة، فنشوته أجبرتهُ على القبول فوراً وكأنّه لا يشعر بشيء غيرها، وتحوّلت جميع مطامعهِ الدنيويّة إلى هدف لقاء الحسين (عليه السلام)، وكأنّه وُلِد في هذا العالم لكي يستمع إليها ويلبّيها، ويموت من أجلها متخيّلاً هيبة استقبال السبط إيّاه في الجِنان.. شعر لأول مرة أنّه عاش ليموت.. اهتمّ لأول مرّة بالموت الذي يشتهيه، ولكنّه اشتهى الحياة أكثر لكي يقاتل أكثر، ويحرّر تلك الأرض التي تشرّفت بدماء الحسين (عليه السلام) وصحبه.. يحاول أن يحافظ على حياته بالقدر المستطاع حتّى يحرّر عالمهُ من بغض عليّ (عليه السلام)، ومثبتاً أنّ الانتصار من الممكن أن يأتي بعد الموت.. فالكثير من النصر، الكثير من الحبّ، الكثير من شوق الحسين (عليه السلام) إليه، والكثير من شعوره بالحنين إلى الشهادة، والكثير من نظرات الفخر بين عينيْ أمّه، وما قيمة النظرة من دون أن يراها في عينيها وعين مَن يحبّ.. كان عالَماً قاسياً، وأصبح أقسى بتلبيته للنداء المقدّس، ولكنّه أبى أن يتغلّب عليه كلّ ذلك، وعمل على جعله واقعاً سعيداً بعد أن كان كابوساً لزوجته الحبلى، وأمّ طفلهِ ذي العامين، حتّى علمت أنّها تقاتل وتحارب مثله تماماً بدعمها له ووقوفها إلى جانبه، ثمّ ماذا؟ ثمّ أصبح فخرها، أصبح قوتها التي أُسنِدت من الحسين (عليه السلام)..