دَعوَةُ أُمٍّ

زينب خليل آل بريهيّ/ كربلاء المقدسة
عدد المشاهدات : 186

تِلكَ الدعوات التي تَنطقها أفواه الأمّهات نابعَة مِن تَجاعِيد السنين، وَوجع الفَقد وَالحِرمان، لتَنتشلنا مِن الضياع وَالتشتّت وَالحُزن الذي يَلتفُّ حولَ أفئدَتنا المُصابَة بالعَمى، تِلك الأيادِي البريئة التي لا تزال تَسهرُ كلّ لَيلة؛ لتُغطّينا بلِحاف الدفء والأمان، تِلك العيُون التي التفَّت حولَها الخطُوط.. تَرسمُ لَنا طَرِيقَ العبُور إلى برّ الأمان.. تلكَ الكَلمات وَالمُناجاة وَالأدعية التي تُحيطُنا من كلّ جانِب؛ لنَستيقظَ بخفّة، وَتزيح عَن صدورِنا كلّ ضِيق.. كَم كبرنا ولا تزال تَمتمة الصلوات الهادئَة لأمّهاتِنا سَبباً لشفاءِ جِراحِنا! بلغنا العشرين، الثلاثين، الأربعين، الخمسين سَنة، وَلا تزال تلكَ الغَيمة البَيضاء تُحلّقُ فَوقنا كُلّما اشتدّت عَلينا عواصِف الحَياة.. تِلكَ الدعوات ما هيَ إلّا بَلسم خَفيّ نزلَ مِن تأويلٍ سَماوِيّ لا يُستبدل بعَقاقيرَ الطبّ الحَديث، وَلا بسحرِ العصرِ القَدِيم، تلكَ الدعوات نَزلت بأيادِي المَلائكَة تُقبّل جَبهاتِنا كلّ يَوم.. لِنختبئ تَحتَ غِطاء الرحمة المُنزلَة منَ السماء، تلكَ الدعوات لا تَشيخ، لا تَهرم، لا تَنقُص، لا تَتبدّل، لا تَختفِي، لا تَهترئ.. فِي آخر النهار.. تعود الأمّهات مُحمّلات بالتعب خلفَ الابتسامة مثلَ عُلبة حَلوى، أو كيس مفاجآت، مثلَ باقةِ وردٍ نضرة، مثلَ رغيفِ خُبزٍ ساخِن.. وحينما يَغفو الجَميع، يَقضينَ الليل بنزعِ شوكِ التعب والخَيبات، ويضعنَ مُكعّباتٍ من ثلجِ الصبر عَلى كَدماتِ النهار.. في آخرِ النهار.. يَتفقّدنَ البيت، بإغلاقِ النوافذ والأبوابِ بإحكام، يُشعلنَ حطَب الدفء من بَقايا ذكريات السنين والأوراق، مِن بقايا الأشياء.. وفي الصباح يُدركنَ جمال التفاصيل الصغيرة، بلُغة الفطرَة، حِينما يَصنعنَ الخُبز بعطرِ الليمون، والزيزفون، والبابونَج.. ورائحَة اللَوز.. وكلّ تلكَ التجاعيد تدور حولَ وجوههنّ، مثلَ نقاطِ النجوم البَعيدة، تَحمل الأُمّهات ميزاتٍ مُختلفة في الدعوات، فَما بينَ خزاناتِ المَلابِس القَديمة وتفاصِيل الثياب المَحبوكة بأيدي الجدّات، حَيثُ تُحصي أعوامَها بعددِ الضحكات، ومثقال الحُزن والتواريخ المنسيّة التي تُرمّم تَجاعيدهنّ.. تلكَ الدعوات أبديّة، فهيَ تُرفع بأكُفّ الأيادِي التي نُسجت مِن أرحامِ الأُمّهات اللاتِي خُلقنَ مِن نهرِ الحُبّ والرحمة والأمان.