شَرنَقَةٌ

أفنان عادل الأسديّ/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 121

خلف الجدران الفارهة أو المتهالكة، عزلة مفروضة وسط الجائحة، تخرج تلك الفراشة الساحرة من شرنقتها فاردةً أجنحة التألّق والجمال، لتسمو في رونق العشق المقدّس. أيام وليالٍ عجاف على البعض، أُجبروا على الخضوع للوصايا الصحيّة والشرعيّة، اعتكافٌ اتّخذه البعض الآخر للارتقاء روحًا وعقلًا وشعوراً إلى ملكوت الإله الواحد، كان لهم في رسول الله(صل الله عليه وآله) أسوة حسنة، فهو المعتزل في غار (حراء) متعبّدًا متهجّدًا، وهو المعتكف في العشرة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، فهل شعر حينها بالوحدة أم كان له أنس من طراز آخر؟ إنّ أولي الألباب فَطِنون لسيرة الأولياء، ممّن أبحرت سفنهم في بحار القرب الإلهيّ، فكان اتّصالهم بذاتهم أولى ثمرات العزلة، فمَن عرف نفسه فقد عرف ربّه، لقد أدركوا أنّ: "الصبر على الوحدة علامة قوة العقل"،(1) مثلما قال إمامنا الكاظم(عليه السلام) ، هذا الإمام الذي قضى عمره في سجن المطامير، فما ازداد نوره إلّا قوة وإشعاعاً يملأ الخافقينِ. لا ريب في أنّ اعتزال الإنسان عن أقرانه يستوجب بديلاً نافعاً، فمَن هو أكثر تأثيراً طيّباً من الكتاب؟ فهو خير جليس، وأول وصايا الله(سبحانه وتعالى) في كتابه الكريم عندما قال:( اقْرَأ )(العلق:1)، فما أروع أن يتدبّر المرء في لآلئ حِكَمه وكنوز معارفه، ويستنير بهداه. وحيث إنّ مداد العلماء يرجح على دماء الشهداء، كان لزاماً علينا أن نزداد علماً، فمثلما أُغلق باب التعلّم المباشر، فُتِحَت آلاف الأبواب للتعلّم عن بُعد، فهذه نِعم الله (عز وجل) تترى تتنزّل على عباده، فطوبى لمَن اغتنم فتح الباب قبل إغلاقه، فقد أسهمت المؤسّسات الثقافيّة والدينيّة في نشر مختلف أنواع العلوم عبر التطبيقات الحديثة لتصل إلى الجميع، وتكون في متناول أيديهم. قال أمير البلغاء(عليه السلام) : "لا سلامة لمَن أكثر مخالطة الناس"،(2) إنّ هذا الحَجْر المنزليّ غدا بيضة القبّان التي من المؤمّل أن تعيد التوازن المنشود بين الكدح خلف دنياً زائلة، والسعي إلى إعادة ترتيب أوراقنا مع خالق السموات والأرضين، فليست كلّ عزلة تؤدّي إلى الوحدة والكآبة، ومن المفارقات أنّنا نعيش الوحدة أحياناً ولوكنّا في جمع من الناس، متوارين كلٌّ خلف شاشته الصغيرة، فهنيئًا لمَن ارتشف من كؤوس الوصل كأسًا لا يظمأ بعدها أبدًا. ......................................... (1) بحار الأنوار: ج1، ص137. (2) ميزان الحكمة: ج3، ص1965.