جَمرَةٌ مُستَعِرَةٌ

منتهى محسن محمد/ بغداد
عدد المشاهدات : 132

منذ صغره وهو يحلم بحمل سلاح على كتفه، ولطالما عالج بندقيّة والده خُفية عن أعين الأهل، كان يسترق النظر، حالما تغفو العيون عند الظهيرة يقصد بخفّة سطح الدار، كان يتلمّس السلاح بنشوة وشوق. لم يكن آنذاك يتلمّس قطع الحديد التي نال بعض جوانبها الصدأ، بل كان يستشعر في تمريرات أنامله الصغيرة عليها العزم والقوة والشجاعة، ويأمل من محاولات سحب الزناد المتكرّرة نيل الكفاءة والمهارة المرجوّة للتصويب. ومع حذر والده وحرصه على إفراغ الحشوات، إلّا أنّه غالباً ما يظلّ قلقاً مرتاباً من وَلع صغيره بها، ومخاوفه تزداد لكونه كثير النسيان، كان والده رمزاً للرجولة والحميّة في قريته النائية الصغيرة، ولطالما استجار به أهل القرية عند اعتداءات السرّاق في آناء الليل، حتّى قضى نحبه في أحد تصديّاته الباسلة عندما دافع عن عِرض فتاة تناولتها أيدي اللئام، وهي في أرضها تحصد بعض الثمار. ظلّ اسم والده وذكريات بطولاته تمرّ في خاطره بشريط حافل بالأمجاد، حتّى شبّ سريعاً وقد لقّبه أهل قريته (بابن السبع)، بمنزلة عربون امتنان لتضحيات والده الذي حمى العِرض، وجاد بنفسه ضدّ حفنة من الأنذال. شبّ الطفل الصغير واشتدّ عوده في ظلّ أجواء قريته ذات الطبيعة الساحرة، تصافح وجهه صباحاً المروج الخضراء، ويستنشق عطر القدّاح الفوّاح، ويطبق عينيه ليلاً على وجه القمر وهو يموج بين السحب المتناثرة بمنتهى التفرّد الإلهيّ الخلّاق. وظلّت تسافر في روحه نشوة الصغر، وحلم معانقة البندقيّة وشمّ عبق البارود، حتّى صاحت الصيحة واستحكمت عُقَد الحقد والشقاق، وارتفع نعيق الغراب بعدما حلّقت خفافيش الظلام في الأجواء متمثّلة بتنظيم (داعش) وتدنيسهم لجزء حيويّ من أرض الوطن المعطاء. انتفض غاضباً كالأسد، وامتطى جماح الرغبة في الاقتتال، وازداد حماساً لمّا صدح صوت المرجعيّة العليا الرشيدة معلنةً فتوى الدفاع الحكيمة التي قصمت ظهور الأنجاس. جاءت اللحظة المناسبة لنيل مراده وتحقيق مبتغاه، وسرعان ما اصطفّ في طابور العزّة والفداء. حمل بندقيّته بكلّ اعتزاز، وسار نحو الجهاد تتخطّفه الأمانيّ في نيل الشهادة دفاعاً عن الوطن، وبذل المُهَج كنهج والده المغوار. وماهي إلّا أيام من التدريب، ثمّ تأهّل للقتال، ورفع سلاحه في سوح المعركة بكلّ همّة واقتدار، وحصد الكثير من عناصر الشرّ والافتراء، ترك أجسادهم العفنة على سفوح الجبال يطمرها التراب، وتنثرها الحيوانات كجيفة فاسدة عاشت وماتت على هذا الحال. وظلّ سمعه يرهف لنبض المرجعيّة الفعّال، مثلما ظلّ عشقه لذلك القرار يسير في دمه، ويحيا مع أنفاسه إلى أن نال شرف الشهادة وهو في ربيعه الحادي والعشرين، زُفّ شبابه عربون ولاء لمنبر المرجعيّة المقدّس، واستشهد (ابن السبع)، ولا تزال تلك التسمية تنتشر في قريته انتشار النار في الهشيم، تستعر جمرةً في فم كلّ مستبدّ ظالم جبّار.