رياض الزهراء العدد 171 منكم وإليكم
طُفُولَةٌ فَازَت بالشَّهَادَةِ
نهضة الطفّ التاريخيّة شهدت من الأحداث تنوّعاً فاق أيّ أحداث أخرى في تاريخ البشريّة، تلك الأحداث التي أضفت عليها معالم خاصّة كشف بعضها المستوى الإنسانيّ والأخلاقيّ الذي كانت تعيشه الأمّة وقتها. لقد جاءت النهضة الحسينيّة لتعلّم البشريّة معنى الإنسانيّة وقِيمها عبر كشف حقائق أناس ادّعوا مثلما يدّعي اليوم الكثير من الناس التديّن أو التطوّر، ومراعاة حقوق الإنسان، لكن في واقعهم يعيشون الازدواجيّة في الشخصيّة والمعايير. محمّد وعبد الله ولدا سفير الإمام الحسين (عليه السلام) مسلم بن عقيل بن أبي طالب (عليهم السلام)، غلامان كان لهما مشاركة في واقعة الطفّ، إلّا أنّها لم تكن لأيام أو ساعات، بل استمرّت حتّى تجاوزت السنة من أحداث شملت مضامين عظيمة، ويوم (23) من ذي الحجّة كانت شهادتهما المفجعة؛ فلقد أُسرا بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، وأُتِيَ بهما إلى عبيد الله بن زياد، فأمر بسجنهما، وأمر السجّان بأخذهما إليه، وقال له: (فمن طيب الطعام فلا تطعمهما، ومن بارد الماء فلا تسقهما، وضيّق سجنهما)، فكان الغلامان يصومان النهار، وإذا جنّ الليل يُؤتيان بقرصين من شعير وكوز من ماء قَراح. ولمّا طال سجن الغلامين وبلغ سنةً، اقترح أحدهما استعطاف السجّان وإعلامه بنسبهما، وأن يتقرّبا إليه بمحمّد (صل الله عليه وآله)، لعلّه يوسّع في طعامهما وشرابهما. فلمّا جنّ الليل وأتى السجّان حلّفاه برسول الله (صل الله عليه وآله)وأخبراه بقربهما منه، فلمّا علِم بذلك أخذ يعتذر إليهما، وانكبّ يقبّل أقدامهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء يا عترة المصطفى، هذا باب السجن مفتوح فخذا أيّ طريق شئتما، وسيرا ليلًا وأكملا بالنهار، حتّى يجعل الله(عز وجل) من أمركما فرجًا ومخرجًا. وسارا مثلما أمرهما الشيخ، حتّى جنّ عليهما الليل وقد أنهكهما التعب، شاهدا عجوزاً وطلبا منها استضافتهما لليلة واحدة فسألتهما عن هويّتهما، فأخبراها حقيقة أمرهما بعد أن طلبا منها الأمان، لكنّها أخبرتهما بأنّ لها زوجاً من أتباع عبيد الله بن زياد، لو ظفر بهما فسيسلّمهما إليه، وفعلًا استضافتهما وأكرمتهما، فلمّا كان بعض الليل أقبل زوجها الفاسق، وقرع الباب فسألته عن مجيئه في هذا الوقت، فأخبرها بأنّه قد هرب غلامان من السجن، وهو قد تعب من البحث عنهما، وكان يجول ويصول في الدار حتّى وقعت عيناه على الغلامين فقال: مَن أنتما؟ فطلبا منه الأمان، فأمّنهما بمكر، فأخبراه حقيقتهما، فبرقت عيناه بالجائزة التي وعد بها ابن زياد، فقال: هربتما من الموت وعليه وقعتما، والحمد لله الذي أظفرني بكما، فقام إلى الغلامين فشدّ أكتافهما، فباتا كذلك وتوسّلت زوجته ألّا يقتلهما، وفي الصباح سلّ سيفه وذبحهما معاً، وأخذ برأسيهما إلى ابن زياد وقصّ عليه ما قالاه بعد أن رفعا طرفيهما إلى السماء وهما يقولان: (يا حيّ يا حليم يا أحكم الحاكمين، احكم بيننا وبينه بالحقّ). فبدلاً من الجائزة حكم عليه ابن زياد بأن يُذبح في مكان ذبحهما، وألّا يختلط دمه بدمهما، وقال له: إنّ أحكم الحاكمين قد حكم بينكم. وجيء برأسه ونُصِب على قناة، وجعل الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة ويقولون: هذا قاتل ذريّة رسول الله(صل الله عليه وآله) . (1) فأصبح مكان ذبحهما قبلة ومزارًا للناظرين، وملاذاً للآملين وبركة للمحبّين. فالسلام عليهما يوم وُلِدا، ويوم استُشهدا، ويوم يبعثان حيّين. ................................. (1) منتهى الآمال: ج١، ص٥٨٩ - ٥٩٣.