أَوطَانٌ مُصَغَّرَةٌ

لجين هادي البياتيّ/ بغداد
عدد المشاهدات : 171

هنالك أشخاص يحملون في أرواحهم إكسير الطمأنينة، من شأن لقائكَ بهم أن يُكسبكَ ضماناً لتحمّل الأيام القادمة، بل الحياة المقبلة برمّتها، إنّهم ببساطة يَبُثوّن في أعماقكَ أملاً غير متناهٍ، طاقةً مُتدفّقة، أحلاماً لا تنضب، يصعدون بكَ إلى أبعد غيمة في الفضاء، يمنحونكَ أجنحةً أو بساطَ ريحٍ حريرّياً، أو عُشبة سحريّة تُقلّص الألم المتوغّل فيكَ، يُحطّمون أمامكَ كلّ القيود والحواجز، ويحرّرونكَ من ذاتكَ المُغلقة، من بقايا اليأس المتراكمة فيكَ، من العالَم القاتم الملتفّ حولكَ، يقطعون عنكَ الماء الملوّث ويستبدلونه بنبعٍ رائق، أزرق ومنساب كثلجٍ ذائب. يُسبغون عليكَ بشعور الأرض الجرداء بعد أن يغمرها المطر، أو كشعور انبلاج الصباح في أول سُويعات النهار، وقطرات الندى تحتضن العشب والأزهار. إنّهم أوطاننا المصغّرة، شعورنا المفتقد الأمان، رغبتنا في التخلّص من الغربة وتَوقنا إلى الانتماء. لا يمكنكَ أن تختصر ذلك الكمّ الاستثنائيّ من الدفء الذي يغمركَ وأنتَ بقربهم، ترغب فقط في أن يتوقّف العالَم عن المسير، يتجمّد الوقت، تتوحّد روحكَ معهم، تقصُّ عليهم ما يختلجُ في نفسكَ، تُشركهم في فوضاكَ الفكريّة، فيمدّون لكَ يد العون لتُرتّبها، تحاكيهم حتّى التعب اللذيذ، تثرثر لهم بكلّ خاطرةٍ مختبئة في فؤادكَ، تستمتع بالغرق في عيونهم المنصتة لكلّ كلمة تقولها، وملامحهم المُركّزة على بوحكَ المرتبك، وتقاطعكَ كلّ دقيقة ابتسامة عميقة، حتّى إن كنتَ تتكلّم على شيء يوجعكَ فإنّكَ تبتسم؛ لأنّ تعثّركَ في الكلام، تأتأتكَ تلك، اضطرابكَ من وقت إلى آخر حينما تريد أن تصف ما بداخلكَ بأنسب كلمات مفهومة، كلّها يفهمونها مثلما تقولها، بدون حاجةٍ منكَ إلى وصفها بدقّة. إنّها مشاعر روحيّة تهبها لكَ السماء مع أشخاص قُدِّر لهم ليكونوا مصابيح في أروقة حياتكَ، يُرسلهم الله تعالى ليتقاطعوا مع طريقكَ في الحياة، يؤدّون دوراً قد كُلِّفوا به في ضمن رسالتهم الوجوديّة، يُشيعون فيكَ أملاً يُمهّد لكَ درباً أخضر، وشموعاً مهما ذابت فستبقى متّقدة حبًّا مفعماً بالنقاء، وخيوط رجاءٍ منسوجة لتُهوّن عليكَ ما يتعسّر من أمر دنياكَ، إنّها ليست مجرّد صداقة ولا مودّة ولا أُخوّة، بل شيئاً أعمق، أعمق بكثير جدّاً، تعرفه الروح وتألفه.