رياض الزهراء العدد 171 ألم الجراح
رَحيلُ بَاقِرِ العُلومِ (عليه السلام) وَعهدُ سَامرَّاءَ
دعِ الكلام مقيّدًا بفمي، والقلب في الأحشاء يحترق، فمن أين أبدأ، ومن أيّ شيء سوف أنطلق؟ فإنّي اليَومَ يا سامرّاء لدين الصمت سأعتنق.. ألم تعلمي أنّ الإيمان منذ أقدم الزمن ذاق طعم الظلم، وبالقيود اختنق.. والشيطان في خبث كان ولايزال يترصّدهُ يعاني من الغيظ الأرق.. فذاك نور اليقين في القلوب حَوّلَ ليالي الشرّ إلى نور انبلاج أشعّة الفجر كفرج آتٍ من بعيد، يلمحها العاشقون مختالة فخورة وهي تختبئ في السماء، وتتغطّى بخيوطه إشعاعات النجوم، تتوارى عن عيون الأنام خجلًا تارة، وخوفًا تارة أخرى، لكن عندما تقترب للداني يراها مثخنة بجروح غائرة، تتسابق العيون إلى تضميدها، وتحاول فكّ رموز حزنها العميق المتجذّر الأناة، وتتهافت الأيدي للتبرّك بها، فذاك نور الأمل القائم، يبدأ من أرضكِ يا سامرّاء وينتهي في جوف عيون طفل يعشق انتظاره. لكن في متاهات الانتظار الطويلة تتعرّى الروح لتهيم على أرصفة الذكرى، وتذبل كلمات الشفاه على حافّة الورق، ويجفّ الحبر في أوردة الألم. وتقيم القصائد طقوسًا جنائزيّة فيتّكئ العاشقون على أرصفة الوجع، ويطالعون جريدة الألم، فتعجز قلوبهم عن التقاط رسائل الفَقْد، وتمضي نحو الموت ظامئةً، فالقلب نبضهُ مع سيّده الحبيب، وبهِ يرتبط المصير. واليوم في السابع من ذي الحجّة تُلقي النفوس همومها ترابًا فوق تراب، فقد رحل الإمام الباقر (عليه السلام) ملبّيًا النداء، رحلت تلك الروح الطاهرة، وتركت الدنيا تغرق في الآثام، وتبتلع من رحيقها حسرات يخنقها صدىً قادم من جوف البقيع، يأتي من بين الأنقاض لتُوقد شمعته في أزقّة سامرّاء دفئاً يحتضن الأشواق. احزني يا سامرّاء! فها شمس باقر العلوم (عليه السلام) تغرب حمراء تنادي وهي تذرف دمعة ألم: "اتّبعوا أولي الأمر منكم" نداءً يدقّ الجدران، ويسكن في الجلود، ويطفئ مصباح الزمن المهجور. وتُنَصب أنوار الذهب في روضتكِ العسكريّة بترانيم التسبيح الحزين؛ لتقاسم البقيع خلف الأسوار المغلقة الممنوعة شريان حزنها، وتندب معها فَقْد الإمام(عليه السلام) وغياب الأحباب، تشتكي صفحات الغدر المسموم من سلالة أحفاد فنون القتل. فيحفر ذلك النوح الحزين في الروح؛ ليخرج من سويداء القلوب شرارة عشق مدفون لن تكشفهُ إلّا اللهفة والشوق إلى ذلك الوجه الموعود.