وانتُهِكتْ بِقتلِكَ حُرمةُ الإسلامِ

ولاء قاسم العبادي/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 444

ما إن تكتحل نواظرنا بتلك القبّة المنيفة، حتّى تقتحم هيبة المزور قلوبنا اقتحامًا، فتتسارع نبضاتها حبًّا وإجلالًا تارةً، وألمًا وجزعًا أخرى؛ لما أصابه من عينٍ قد نبت فيها السهم، ورأسٍ قد أثّر فيه العمود، وكفّين قد قُطِعتا لا لذنبٍ اقترفتاه، سوى الذبّ عن دينِ الله تعالى، وإمام الزمان (عليه السلام) وحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله). نبادر إلى قراءة الزيارة مبادرة الظمآن إلى الماء، فنرتوي بمضامينها العالية التي تُشيرُ إلى مقاماتٍ أثيلةٍ قد أثبتها عِدلُ القرآن الإمام الصادق (عليه السلام) بسندٍ صحيحٍ. العقلُ يُحارُ وتزدحمُ فيه الأفكار، فأيُّ مقامٍ للكفيل (عليه السلام) أُنيرت القلوب به، والمقام لا يتّسع لشرح كلمة (السلام) من زيارته؟! ولكن لمّا كان ما لا يُدرك كُلّه لا يُترك جُلّه آثرتُ أنْ أقف عند عبارة: "وانتُهِكتْ بقتلكَ حرمةُ الإسلام".(1) الإسلام: هو الدين الذي جاء به جميعُ الأنبياء (عليهم السلام)، وإن اختلفت شرائعهم، قال الله تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 84). بل إنّ دين الإسلام هو دينُ جميع مَن في السماوات والأرض، قال الله (سبحانه وتعالى): (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران: 83). بل هو وحده الدينُ المرضيّ عندَه تعالى؛ إذ قال (عز وجل): (إنّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ (آل عمران: 19). وأمّا حرمةُ الإسلام فيمكن تقريب معناها بالمعنى العرفيّ، فمن المعلوم مثلًا أنّ هناك مساحة معتدًّا بها تحيط بقصر الملك عادةً، يُعبَّر عنها بـ(الحرم)، استمدّت حرمتها من ملاصقتها المباشرة للقصر الملكيّ، يلتزم الجميع فيها بما تمليه عليهم الأنظمة الملكيّة، وتُعدُّ مخالفة تلك الأنظمة - وإنْ كان جهلًا - انتهاكًا للحرم الملكيّ، يُعرِّضُ فاعله إلى عقوبةٍ شديدة. فإذا تصوّرنا ما تقدّم من معنى لفهم حرمة الإسلام، فبلا ريب تكون حرمته أقدس وأعلى بمراتب ومراتب - لقدسيّة الإسلام نفسه - ويكون انتهاكها جرمًا عظيمًا، ومن ثمّ لا يمكن أنّ تُنتهك بقتل أيّ مسلمٍ مهما علت منزلته أو سمت مرتبته أو بذل في سبيل الإسلام جهده ودمه، بل وإن كان عالمًا أو مرجعًا إلّا أن يكون معصومًا، وأبو الفضل العبّاس (عليه السلام) معصومٌ بالعصمة المُكتسبة؛ للكثيرِ من الأدلّة والبراهين التي لا يسعُ المقام لذكرها، فضلًا عن التفصيل فيها، ولذا انتُهِكت بقتله حرمةُ الإسلام. وقد مثّل دينَ الإسلامِ نفسه الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لأنّه حقيقته وجوهره وأصلُه، ولذا نقرأ في زيارة الناحية المقدّسة: "لقد قتلوا بقتلكَ الإسلام".(2) ومن هنا يمكننا أن نفهم لِمَ كان قتل أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) دون غيره هو الذي مهّد لوصولِ الأعداء إلى الإمام الحسين (عليه السلام) ومن ثمّ قتله، ولِمَ كان صاحبَ لوائه، ولِمَ قرنَ بمُضيّه تفرّق عسكره؛(3) إذ إنّه حَرَمه، ولا يمكن للأعداء الوصول إليه إلّا بعد انتهاك حرمه! كثيرةٌ هي مقاماتكَ الجليلة ومراتبكَ العظيمة سيّدي ومولاي أبا الفضل، ولو لم يكنْ إلّا هذا المقام لكفى، فسلامٌ عليكَ سيّدي ومولاي يوم وُلِدتَ ويوم اُستشهدتَ فانتُهكت بقتلكَ حرمة الإسلام ويوم تُبعث حيًّا. .................................. 1- بحار الأنوار: ج ٩٨، ص٣٦٤. 2- المصدر السابق: ج ٩٨، ص٢٤١. 3- المصدر نفسه: ج45، ص4١.