المُواسَاةُ.. بيتٌ لثَقافَةِ المُجتمعاتِ الإنسانيةِ بَوّاَبتُهُ الأبعادُ الاجتماعِيَّةُ
يقول أبو الأئمة أمير المؤمنين (عليه السلام): "ما حُفِظَتِ الأُخُوَّةُ بِمِثلِ المُواساة"(1). المواساة عندما نبحث عنها نجدها في كلّ زوايا الحياة ومواقفها المختلفة؛ لأنّها فنّ.. ففي كلّ موقف من المواقف الحياتيّة تلبس ثوبا مختلفًا، تارة ترتدي ثوب الدموع، وتارة أخرى ترتدي ثوب المواساة؛ فهي ليست مشترطة بالمادّة، قد نكون حزينين، وقد تأتي المواساة على شكل بسمة أو كلمة تثبيت تدعم الضعف وتجبر الكسر. فماذا تترك ثقافة المواساة على الفرد و المجتمع من أثر؟ وما البصمة المهمّة التي تركتها المواساة في يوم العاشر من المحرّم الحرام سنة إحدى وستين للهجرة إلى يومنا هذا؟ الرباط الساميّ بدأت زهراء فاضل كاظم الحسينيّ/ معلّمة اللغة العربيّة حديثها: قبل الخوض في المعاني السامية التي يحملها هذا الحديث، يجب التسليم بأمر مهمّ وهو أنّ كلامَ الأمير (عليه السلام)، أمير الكلام، فلو استظهرنا أقوال أهل البيت (عليهم السلام) لوجدنا أنّها دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوق، فهو كلام لا يأتيه الباطل بأيّ شكل من الأشكال وهو دستور يستطيع الشخص السيرَ عليه في مواطن حياته واتّخاذه نبراسًا يستضيء به في المواقف المختلفة. ولو أنّنا راجعنا قولَ الإمام عليّ (عليه السلام) فسنلحظ تأكيدهُ الواضح على كلمة الأُخوّة، وهيَ الرباط السامي الذي ارتبطَ بهِ مسلمو الرعيل الأول، فلعلَّ من أول الأعمال التي قامت عليها الدولة الإسلاميّة الفتيّة هيَ المؤاخاة حيث آخى الرسول (صلى الله عليه وآله) بين المهاجرين والأنصار مستخدمًا مبدأ التكافؤ الممكن بينهم، ولا بدَّ للمرء من أن يعزّز ويقوّي هذا الرباط ويحافظ عليه دائمًا، لما له من أهميّه قصوى في الحفاظ على ثبات المجتمع وديمومته فقد قالَ الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:١٠). وهنا يوضّح لنا أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) أهمّ عنصر من عناصر المحافظة على الأُخوّة وهو المواساة، فكلمة المواساة هي مصدر للفعل (واسى) بمعنى خفّفَ الحزن والمصاب عن صاحبه، ونحن نلحظُ أنّ الإنسان أكثر ما يحتاج إلى أحبّائه ومَن حولهُ في ساعة الحزن والضيق، ويبقى ممتنًّا لمَن واساه ووقفَ معهُ في مواطن العسرة، ويتذكّر بألم مَن لم يذكره ولم يواسه في تلك اللحظات، وأخفّ من ذلك لحظات الفرح، فإنَّ الإنسان عندها يكون مكتفيًا بفرصتهِ مشغولًا بها عن الآخرين، ولعلّ من أعظم المصائب والفجائع التي مرّت بتاريخ الإنسانيّة هي واقعة كربلاء، حيث نجد فيها أنّ الشخص الواحد قد فُجعَ بأكثر من عزيز بمختلف أنواع القرابة، إضافةً إلى انتظار الكلّ لمصير محتوم، إمّا الشهادة وإمّا الأسر، وهنا تَفنّن أولياء الله الصالحون بطُرقِ المواساة، المواساة بالقولِ والفعل، فمنهم مَن واسى الإمام الحسين (عليه السلام) بنفسه، فما كانَ من الإمام (عليه السلام) إلّا أن يواسيه ببيان مكانه في الجنّة، فكانت المواساة متبادلة بين الطرفين، ولعلَّ في كربلاء مَن أرادَ أن يواسي الحسين (عليه السلام) بجميع الصور الممكنة، فهذا العبّاس (عليه السلام) يطلب من أخوته أن يتقدّموا للشهادة بين يديه حتّى يَحتسبهم ويواسي أخاه بهم، ثمّ يجودُ هوَ بنفسهِ بعدهم، وهذه السيّدة زينب (عليها السلام) قدّمت ولديها للمعركة ولم تذرف عينها عليهما دمعة واحدة، بل ساندت أخاها منذ لحظة خروجهِ وحفظت عائلته إلى لحظة الرجوع، لذا فمَن أرادَ أن يتعرّفَ على أبهى صور المواساة فعليه بدراسة مواقف الطفّ واستحضارها التي ما توانى أصحابها عن تقديم أقصى ما لديهم في هذا المجال؛ ليحافظوا على نواة المجتمع الإسلاميّ ويسقوا البذرة التي بذرها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيهم، ويكونوا نبراسًا لمَن بعدهم وقدوةً للأَجيال. رحى الأيام وأوضحت مريم العبوديّ/ قصر الثقافة والفنون في كربلاء المقدّسة: لقد أكثر النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) من الإشادة بضرورة مدّ يد العون والسعي في قضاء حاجات الناس، ومن منطلق أنّ المسلمين إخوة قال (صلى الله عليه وآله): "إنّ الله في عون المؤمن ما دام المؤمن في عون أخيه المؤمن.."(2)، فلا يوجد ما هو أكثرُ بركةً في الرزق والحياة من أنّ تكون مصدر رأفة وطمأنينة للآخرين، يجدونكَ بجانبهم عندما تتكالب عليهم الأيام العصيبة، ورحى الأيام تدور، فإنّ الساعي في حاجات الناس والتخفيف من أثقالهم لا بدّ من أن تُمدّ له عشرات الأيدي لتعينه حين يسقط. أدوار وتحدّث الأستاذ حيدر الأسديّ/ أكاديميّ وناقد، عن المواساة بأنّها: ثقافة ذاتيّة وثقافة مجتمعيّة تتّصل بطقسيّة سيكولوجيّة لها أبعاد كبيرة على الذي ستتمّ مواساته، فهي جانب ليس ماديًّا أو عادة اجتماعيّة سلوكيّة وحسب، بل جانب يتّصل بالسلوك الروحيّ للمتعارفين بهذه الدنيا الكبيرة، والأحباب، والعائلة، والمقرّبين، تشعر بأنّكَ لن تكون لوحدكَ إذا ما أحطت بالمقرّبين، أو تطفئ بعض ناركَ المشتعلة من جرّاء الفراق، فما علينا إلّا أن نشعر الرفيق بأنّنا إلى جنبه ونتشارك معه ألمه وحزنه، ومن ثمّ نتقاسم معه تفاصيل الحزن والفقد ولا نتركه وحيدًا، حتّى يستعيد توازنه النفسيّ وانخراطه في المجتمع والممارسات اليوميّة من جديد، وهنا يرتسم لكلّ شخصيّة دور من الأدوار في المواساة. مفردة عميقة وأوضح باسم القطرانيّ/ قاصّ وروائيّ/ عضو اتّحاد الأدباء والكتّاب العراقيّين، أنّ: المواساة مفردة عميقة تتجذّر في الروابط الإنسانيّة الحقيقيّة التي تجعل من الفرد مثالًا صادقًا، وأنموذجًا فريدًا في حمل الأوزار عن غيره، لا لشيء سوى أنّه يحمل نفسًا كبيرة وروحًا بالغة الإيمان، فيكون مصداقًا لقول أمير المؤمنين وسيّد البلغاء والمتكلّمين (عليه السلام): "ما حُفِظت الأخوة بمثل المواساة"(3)، ولعلّ المثل الأعلى في المواساة يتجسّد كليًّا في واحد من أبرز عظماء الإنسانيّة على مرّ التاريخ، وأعني بذلك أبا الفضل العبّاس (عليه السلام) الذي كان نِعم الأخ المواسي لأخيه، والذابّ عنه مثلما وَصَفه الإمام الصادق (عليه السلام). لقد واسى العبّاس أخاه الإمام الحسين (عليه السلام) بكلّ ما يملك: جسده الشريف، روحه الطاهرة، ونفسه الزكيّة، فاستحقّ الخلود في ضمائر الناس وإلى الأبد، فليس أسمى من أن يقتلكَ العطش وتمتلك الماء ولا تشرب، وليس أغلى من أن تذبّ عن حرم الله تعالى بيمينكَ وشمالكَ وعينيكَ وهامتكَ، وتقضي صابرًا محتسبًا وأنتَ تواسي قرّة عين الرسول (صلى الله عليه وآله) والزهراء (عليها السلام)، المواساة الحقيقيّة كانت عند العبّاس (عليه السلام)، بشجاعته، وبسالته في الدفاع عن سيّد الشهداء (عليه السلام) وعياله وحرمه، وتلك أسمى الغايات وأشرف الحقائق. قد يجد المرء نفسه أحيانًا في مواقف معيّنة يعجز فيها عن التعبير، ويشعر معها بعبء الكلمة وثقلها ولا جدواها، لا لأنّ لديه استعصاء في الإعراب عمّا ينتابه، بل لقناعته بأنّ ما يمكن أن يتفوّه به لن يؤدّي الدور المأمول منه، ولن يخفّف من تأثير المأساة المفجعة في أصحابها. ........................................... (1) ميزان الحكمة: ج4، ص3528. (2) بحار الأنوار: ج71، ص312. (3) ميزان الحكمة: ج٤، ص٣٥٢٨.