أوّلُ المُسلمِينَ
قال الله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ) (آل عمران: 19)، فليس ثمّة دينٌ سواه، ومن ثمّ فلا وجود لأديان سماويّة متعدّدة، إن هو إلّا دينٌ واحدٌ فقط وهو الإسلام. أمّا ما يُتعارفُ عليه اليومَ بأنّها أديانٌ سماويّة، فما هي في الحقيقةِ إلّا شرائع تضمُّ أحكامًا تختلف فيما بينها، قال الله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) (المائدة: 48)، تنضوي جميعُها تحت دينٍ واحدٍ وهو دين الإسلام. المرادُ بالإسلام - بهذا الإطلاق -: التسليم والعبوديّة لله (سبحانه وتعالى) التي تتضمّن التوحيد والإيمان بصفاته (عزّ وجلّ) وبالنبوّة والمعاد. وإنّما أُطلِقَ اسم (الإسلام) على الشريعةِ التي جاء بها الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أيضًا؛ لأنّها أرفع الشرائع. ولذا فلا غَرو في أن يكون الأنبياء جميعهم مسلمين، وقد أكّدت ذلك آيات القرآن الكريم، منها قول الله تعالى على لسان نوح (عليه السلام): (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس: 72)، وعلى لسان إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام): (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) (البقرة: 128)، وعلى لسان سليمان (عليه السلام): (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) (النمل: 42). وإنّما ما يدعو إلى التساؤل أن يكون النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وهو خاتم الأنبياء (عليهم السلام) أولَ المسلمين، قال الله تعالى: (وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 163)، فكيف يكون أول المسلمين وقد سبقه جميع الأنبياء مولدًا؟ في مقام الجواب نقول: إنّ الله (عزّ وجلّ) أخذ الميثاق من جميع خلقه في عالم الذرّ- هو عالمٌ غيبيّ من العوالم التي تسبق عالمنا هذا - رُوي أنّ ابن الكوّاء سأل أمير المؤمنين (عليه السلام): "أخبرني عن الله (تبارك وتعالى) هل كلّم أحدًا من وُلد آدم قبل موسى؟ فقال عليّ (عليه السلام): قد كلّمَ الله جميع خلقه برّهم وفاجرهم، وردّوا عليه الجواب. فثقُلَ ذلك على ابن الكوّاء ولم يعرفه، فقال له: كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال له (عليه السلام): أَوَ ما تقرأ كتاب الله تعالى إذ يقول لنبيّه: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)(1)،؟ فقد أسمعهم كلامه، وردّوا عليه الجواب كما تسمع في قول الله ـ يا بن الكوّاء ـ: (قالوا بلى)، فقال لهم: إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا، وأنا الرحمن، فاقرّوا له بالطاعة والربوبيّة.. "(2). وقد كان رسولنا الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أول مَن أقرَّ لله تعالى بالطاعة والربوبيّة، وقد رُوي عنه (صلّى الله عليه وآله) أنّه سُئل: "بأيّ شيءٍ سبقتَ الأنبياء وأنتَ بُعِثتَ آخرهم وخاتمهم؟ فقال: إنّي كنتُ أولَ مَن آمن بربّي وأول مَن أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيّين وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربّكم؟ فكنتُ أول مَن قال: بلى، فسبقتهم بالإقرار بالله (عزّ وجلّ)".(3) فهو (صلّى الله عليه وآله) وإن كان آخر الأنبياءِ بعثًا في عالم الدنيا ممّا يستدعي تأخّره عنهم، إلّا أنّه أول مَن أقرَّ لله تعالى بالطاعة والربوبيّة في عالم الذرّ، وبذا يكون أول مَن أسلم من الناس أجمعين، قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا من النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) (الأحزاب: 7)، فقد قدّم الله تعالى ذكر نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) في إخذ الميثاق على سائر أنبياءِ أولي العزم على الرغم من تأخّره عنهم مولدًا وبعثًا في عالم الدنيا، وما ذلك إلّا لأسبقيّته عليهم في عالم الذرّ. ............................. (1) الأعراف: 172. (2) بحار الأنوار: ج67، ص101. (3) شرح أصول الكافي: ج4، ص114.