رياض الزهراء العدد 173 شمس خلف السحاب
الأَربعينِيَّةُ هِي المِدادُ للاجتماعِ عَلى غيرِ ميعادٍ
قال الله تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا.. (البقرة: ١٤٨)، هذه الآية كم تذكّرنا بجمال روح الاجتماع الذي نراه في أربعينيّة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)؟ وكم ترينا عظمة رسوخ العقيدة فيها، إذ ولّى أصحابها بقلوبهم قبل وجوههم عن الدنيا ومتعها، وكانت الوجهة لهم هي كربلاء، بل تسابقوا إليها، لأنّ فيها منبعًا من منابع أصل الخير، إنّه سيّد الشهداء (عليه السلام). ولأنّهم ممّن صغت قلوبهم بحرقة ووجع وحياء إلى نداء: "هل من ناصرٍ ينصرُنا"، اختاروا أن يواسوا السبايا من بيت العترة الأطهار (عليهم السلام)، بالسير خطوات طوالاً كانت أو قصارًا لعلّ حرارة الشمس تلامس أبدانهم، وتحرق وجوههم، ويذوقوا صعوبة الطريق وتعبه. ولهذا فهم المخلصون حقًا لتلك الدماء، والملبّون صدقًا لذلك النداء، يتكفّل الله تعالى بأن يأتي بهم أينما يكونوا ليجتمعوا في أربعينيّة الإمام (عليه السلام)، وليجدّدوا له الولاء والعزاء، فكم سمعنا من قصص لأناس كان المجيء عليهم شاقًا لفقر ذات اليد أو لبعد المسافة وغيرها من الأسباب، لكن كانوا مشمولين بقوله تعالى: أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا (البقرة: 148). وكلمة (جَمِيعًا) تنقلنا إلى مشهد آخر من مشاهد الولاء، إلى إمام غريب مظلوم محزون كغريب كربلاء، إنّه إمام زماننا (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) الذي في كلّ لحظة تتجدّد في قلبه الأحزان، فيبكي دمًا لما جرى على عيال جدّه من سبي وعناء، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا، قال: "نزلت في القائم وأصحابه، يجتمعون على غير ميعاد"(1). فمثلما أنّ الناس الموالين المعزّين يأتون من كلّ مكان، فيجتمعون بأبدانهم، ويتآلفون بقلوبهم، ويتعاونون ويتكافلون من أجل إحياء هذه الشعيرة العظيمة، من دون مقدّمات ولا مصالح أو منافع دنيويّة، بل الكلّ مجتمع على: (لبيّكَ يا حسين)، فهكذا سيكون اجتماع الناس حول الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ملبّين له النداء بالسمع والطاعة والامتثال. ثمّ في رواية أخرى عن محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "الفُقَداء قوم يُفقدون من فرشهم، فيصبحون بمكّة وهو قول الله عزّ وجلّ: أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا، وهم أصحاب القائم (عليه السلام)".(٣) فكم نرى هذه الحقيقة في الأربعينيّة، فتراهم يتركون بيوتهم حيث النوم الهانئ، والفراش الدافئ، ليسيروا ليلًا على الأقدام، أو ليسهروا على خدمة الزائرين، كلّ ذلك لأجل نيل رضا الإمام الذي بقي جسده الطاهر ليالي وأيامًا على الرمضاء، ولأجل مواساة النسوة الهاشميّات اللواتي احترقت عليهنّ الخيام، ولأجل تلك الليالي التي كنّ يقضينها في خربات الشام. وهكذا هم أصحاب الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، فهم ممّن تتجافى جنوبهم عن المضاجع لغيبته وهجرته ووحدته، فكيف إذا طلبهم الإمام وعلموا بقرب تحقّق لقائهم به؟ .......................................... (1) الغيبة للنعمانيّ: ص٢٤١. (2) نفس المصدر: ص٣١٣.