رياض الزهراء العدد 173 الحشد المقدس
تَحلِيقٌ نَحوَ الفِردَوسِ
لم يكن كرةً تهاوت بعبث في الهواء، ولم يكن نيزكًا سقط من السماء مثلما لم يكن طيرًا اضطرب فجأة وانحدر نزولًا حتّى حتفه، بل ظلّ منظره وهو يتدحرج في الهواء الطلق كفيلًا بمعانقة الوجع وقادرًا على خلق أنهارٍ من الأحزان. وعند حدود الذاكرة والتقاء القلوب عند أمسيّة أخيرة مع الأهل والأحباب سمرته نظرات الوداع، أمّه في مصلّاها تحوم حوله بدعائها الحنون، تسوّره بتمتماتها، وتعيذه من الشيطان بلسانها الرطب بالأذكار. وطفله ذو السنين الخمسة الذي ظلّ غاضبًا حتّى اللحظة الأخيرة، يلقي نظراته الحزينة بطرف عينيه نحوه، مستخدمًا كلّ الطرق لمنعه من مغادرة البيت، كان آخرها سرقة حذائه وإخفاؤه خلسةً تحت السرير. زوجته التي لم تجد إلّا اللوعة في حياتها الماضية والتي استندت عليه تكفكف فرط أحزانها الثقال، وترمي عن كاهلها أيام البؤس والشقاء، عادت ترتجف من جديد، وفي قلبها يجثم الخوف والقلق من محنة فقدانه. ووالده الذي لم يبقَ له إلّا عكّازه الذي يتوكّأ عليها وإطارات طبيّة يبصر عن طريقها بعض الضوء بعد ما نزعت منه الحياة بصره إثر فقدانه لاثنين من أبنائه الأشاوس دفاعًا وصونًا للعرض والوطن، راح يشمّه من صدره بحرقة، بينما عزفت عيناهما سمفونيّة الدمع مدرارًا. وفي يوم مشمس تشاطر مع زملائه بعض الكلمات التي تخلّلتها الضحكات، ثم ارتفعت ترانيم أهازيجهم المعجونة بحبّ الوطن الغالي والمرجعيّة الدينية العليا ، في عرض صحراء غابرة تشظّت فيها الأصوات إلى لحن ناي حزين. ظلّ قليلًا يحدّق في الفضاء، ثمّ أسبل عينيه نحو الأرض وحسرة يزفرها من صدره قبل أن يشرع في عمله، اجتاز حدود الحواجز الممنوعة بحذر شديد ووضع الخريطة على الأرض، وأخرج عدّته وبدأ يحفر الأرض فاحصًا المكان بكلّ دقّة متابعًا ملفّ التوصيل الذي غاص بين ذرّات التراب وتلاشى، شعر بحرارة التراب ويداه تغوران في عمق باطنها، لكنّه لم يخرجها فارغةً، بل قبض قبضة كبيرة مَن أديم الأرض وراح يشمّها وينثرها فوق رأسه وجبهته وصدره قبل أن يتهاوى في الهواء بانفجار لغم تحت قدميه ليرفعه محلّقًا إلى أعلى عليّين في طرفة عين، وينقله من حطام دنيا فانية إلى نعيم الآخرة المقيم.