رياض الزهراء العدد 173 منكم وإليكم
حَدِيثُ آلِ مُحمّدٍ (صَلواتُ اللهِ عَليهِم)
لملم جبريل أذياله وطوى جناحيه الوارفين، وانكفأ آفلًا محمرّ القلب والعين كشمس الغروب، فقد انقضى عمر الصادق الأمين، وتهيّأ الحبيب ليضمّ حبيبَه، وأطلق القلب آخر النبضات ليختم بها وجيبَه.. تبعثرت غمامة الرحمة التي طالما ظلّلت رأسه الشريف، وانفرط عقدها اللجينيّ وتناثر، واستحبّت العدم على أن تظلّل أيّ رأسٍ آخر.. انكسر قلب حيدر(عليه السلام) لمّا عاين البلاء الأعسر، واعتُصر فؤاد البتول (عليها السلام) لمّا نظرت إلى وجه والدها الرسول (صلّى الله عليه وآله)، يلفظ آخر الأنفاس ويقول: "إنّي تاركٌ فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا".(1) لقد أيقنت سيّدة النساء أنّ سهم القضاء قد نفذ، وأنّ الآخرة قد فازت بوسام الرحمة الأكبر، وأنّ الآتي همٌّ وكربٌ جسيم، وما بعده أجلّ وأجسم! تذكّر الجميع أحاديثه ووصاياه، وقد علموا أنّه ما نطق يومًا بهواه، بل كانت أنفاسه تسابيح وكلامه وحيٌ يُوحى، وها هو الغدير الأصبّ يشهد على وصيّةٍ تتجدّد: "مَن كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهم والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه..".(2) وطأطأوا الرؤوس للآية الحاسمة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3). ولكنّ النفوس الوغرة أبت أن تكون النبوّة والإمامة في بيتٍ واحد، فتناسَوا أمر الله تعالى ورسوله (صلّى الله عليه وآله)، وقرّروا أن يتناهبوا الإرث ويتظاهروا على أهله بادّعاء الشورى، وما كانت إلّا فتنة، وقد زُيّن لهم زخرف القول غرورًا.. فلقد اتّفقوا على قول القائل المتطاول: "إنّه ليهجر"، وخالفوا أمر الإله العادل: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب:36)، وأعلنوا العصيان لشريعة الديّان، واغتالوا دين محمّد (صلّى الله عليه وآله). الحزن عظيم، والهول أعظم، وليس ذاك لفقد خاتم النبيّين (صلّى الله عليه وآله) فحسب، بل لانتهاك الحرمة، وتفريق الكلمة، واقتحام بيت عليٍّ وفاطمة (عليهما السلام). إيهٍ يا رسول الله، لقد بُلّغتَ وأبلغتَ، وعُلّمت وأعلمتَ بأنّ القوم سيقتنصون الفرصة، ويشهرون العداء لآلكَ، حتى لكأنّكَ أنتَ الذي أوصيتَهم بذلك، ولكنّ البشرى في التمسّك بالعروة الوثقى، ومع أنّ درب الحقّ موحشٌ قليلٌ سالكوه، وأنّ المؤمنين قلّة، فلا ضير في قلّةٍ غالبة ترقى على كثرةٍ ناصبة، تضلّ وتتيه. وتكرّ السنون، تثقلها سيوف الغدر تغتال الحقّ، وسموم العهر تغوص في كبده وتشقّ، وصفر الخير يغدو صفر الأحزان، قد اصفرّت جنباته وتساقطت وريقاته، فمن سمّ الحسن المجتبى (عليه السلام) في السابع منه، إلى سمّ الرضا المرتضى (عليه السلام) في الثلاثين، وقد أحاطا باستشهاد النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، إحاطة الساقي على نبع الكوثر بالماء المعين، يرشّف كلّ مَن طلب الريّ ترشيفًا، فينهل الظامئون ويرتوون، ويحدّثون الباقين بحديث آل محمّد (صلوات الله عليهم): (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144). كلّا وحاشا.. وإنّ دينًا بُذلت دونه المُهج، وارتقى بالقول والفعل والحُجج، لحريٌّ بأن يبقى نهجًا أبد الدهر يُنتهج، فـ(إنّ الدينَ عندَ اللهِ الإسلام)(3) ولو كره المبطلون، وإنّا على وصيّتكَ يا سيّد الخلق لثابتون، فاستغفر لنا ذنوبنا إنّا كنّا خاطئين، وتقبّلنا بقبولٍ حَسنٍ وادعُ لنا ربّك يبيّن لنا ما تشابه علينا، ولعمري فلقد أفلح مَن تزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب: 56). ............................... (1) وسائل الشيعة: ج٢٧، ص٣٤. (2) بحار الأنوار: ج٣٧، ص١٢٦. (3) آل عمران: 19.