حِجرُ النُّبوّةِ والإمَامَةِ
ارتجّت أركان السموات والأرض لاضطراب قلب حبيب الله تعالى لفقد عزيزة له، حزنه ضاق بالخافقين وبانت علائمه على تقاسيم وجهه الشريف، امتلأ صوته بالوجع وهو يحضن عليًّا باكيًا ليواسيه ويواسي نفسه الشريفة لفقد الأمّ الرؤوم، والحِجر الذي اتسع ليحتوي النبوّة والإمامة معًا قائلًا: "رحم الله أمّكَ يا عليّ، أما إنّها لو كانت لكَ أمًّا فقد كانت لي أمًّا".(١) ها هي فاطمة بنت أسد قد التفّت حولها أذرع الموت وحان وقت دفنها، فعل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بجنازتها ما لم يفعله مع أحد غيرها، كفّنها بقميصه ليبعثها الله ستيرة، واضطجع في قبرها ليوسّعه لها ويؤمنها من ضغطة القبر، وصلّى عليها صلاةً لم يصلّها على أحد من قبل، فقد كبّر سبعين تكبيرةً على عدد صفوف الملائكة التي أحاطت بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين الصلاة عليها.(٢) لم تكن فاطمة بنت أسد مجرّد حضن ترعرع فيه الرسول (صلّى الله عليه وآله)، بل كان يرى فيها قوة الإيمان به بوصفه خاتمًا للأنبياء والمرسلين، والحنان والسند والاهتمام والطاعة حتّى يئن الأوان، كانت تقدّر جيدًا مقام النبوّة عند الله، ففضّلته على أولادها ومنهم وصيّ النبيّ (عليه السلام)، ونفهم ذلك من الروايات العديدة في هذا المعنى، منها ما رُوي عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله): "..كانت تُشبعني وتجيعهم، وتكسوني وتعريهم، وتُدهنني وتُشعثهم..".(٣) تمتّعت بالاستعداد النفسيّ والبدنيّ في رعاية نبيّ آخر الزمان، والحفاظ على حياته من مكائد اليهود، والمساندة الكاملة له في دعوته إلى الإسلام، فهي من السابقات إلى الإسلام لكونها ثاني امرأة آمنت به بعد السيّدة خديجة (عليها السلام)، ووقوفها إلى جانبه في كلّ مراحل الدعوة في مكّة حيث عانت ما عانى المسلمون من أذى قريش لهم، فكانت السند للنبيّ (صلّى الله عليه وآله)، والكنف الذي يستند إليه حين تعصف به الهموم بخاصّة بعد عام الحزن الذي فقد فيه ركنه اللصيق السيّدة خديجة (عليها السلام)، وكافله وركنه الوثيق أبا طالب (عليه السلام). اكملتْ مسيرة زوجها في احتواء النبوّة، فكانت ملازمة لدعوة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بكلّ تحديّاتها بعد الهجرة، فهي (أول امرأة هاجرت إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من مكّة إلى المدينة على قدميها ماشية حافية)(٤)، وبقيت فاطمة بنت أسد هي الأمان ومصدر الاطمئنان الذي ينشده الرسول (صلّى الله عليه وآله) في شخصها حتّى توفيت في العام الرابع للهجرة. وفي ختام هذه الرحلة جزاها الله تعالى خير الجزاء على كلّ تضحياتها وتفانيها في خدمة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وتفصيل ذلك في الخبر عن الإمام الصادق )عليه السلام): "نزل جبرئيل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: يا محمّد: ربّكَ يقرئكَ السلام، ويقول لكَ: إنّي قد حرّمتُ النار على صلب أنزلكَ، وعلى بطن حملكَ، وحجر كفلكَ، فقال جبرئيل: أمّا الصلب الذي أنزلكَ فصلب عبد الله بن عبد المطلب، وأمّا البطن الذي حملكَ فآمنة بنت وهب، وأمّا الحِجر الذي كفلكَ فعبد مناف بن عبد المطّلب وفاطمة بنت أسد".(٥) ولحرقة قلب الرسول (صلّى الله عليه وآله) في دفن فاطمة بنت أسد ومواساته لعليّ (عليه السلام) نجد كيف ردّ عليّ (عليه السلام) هذه المواساة في دفن فاطمة (عليها السلام) بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) حينما اُستُرجعت الوديعة بقبر مجهول، وضلع مكسور، وجنين مُسقط، وعين محمرّة في سبيل إحياء دين الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ولدفن الفواطم شجن وآه بين النبوّة والإمامة لا يسكن ولا يرقأ حتّى ظهور القائم من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله). ........................................... (١) أمالي الشيخ الصدوق: ص٣٩١. (٢) المصدر السابق: ص٣٩١-٣٩٢. (٣) المصدر السابق: ص٣٩١. (٤) الكافي: ج1، ص٣٧٧. (٥) بحار الأنوار: ج35، ص١٠٩.