صَمتٌ

مريم حسين العبودي/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 1415

الصمت، غلافٌ ذو خاصيّة كاتمة، مُخادعة، يُخيّل إلى الرائي أنّ المتخلّق به ذو طمأنينةٍ وهدوء، وأنّه من فرط رضاه وسعادته لا يجدُ أمرًا يتذمّر منه ولا عائقًا في حياته يشكوه ويهذرُ بشأنه. يُظلمُ الصامتون في معظم الأوقات، يُعاملون كأنّهم مخلوقات حجريّة صلدة، أو أنّ خللًا نفسيًا قد ألّم بهم، فكيف يستطيعون مواصلة الصمت بهذا الشكل في حين أنّ ربع ما يحتملونه لو أصاب شخصًا عاديًّا آخر لبقي يتذمّر ويشكو منه أيامًا متواصلة! ما وصفتهم السريّة والسحريّة للبقاء بهذا السلام الذي يبدو أبديًا؟ لله درُّ الصامتين، الذين يواصلون إطباق شفاههم، كتم الكلمات في حناجرهم المُتخدّرة من قِلّة تحريك أوتارها الصوتيّة، المستمعون بإنصات لتدفّق الكلام من أفواه الآخرين، الذين يمنحون بسماتٍ زائفة وتطميناتٍ صادرة من انكسار يتلوه انكسار.. لطالما قيل بأنّ الصمت عمّا في داخلكَ يُراكم طاقة الأذى فيكَ، يُسمّمُكَ روحًا وبدنًا، يُحيلكَ إلى مخلوقٍ تعِس.. لكنّكَ لا تختاره! لا تتلذّذ بهذا الإطباق المُحكم على كلّ خلاياكَ الحيّة، إنّه أمرٌ مفروضٌ عليكَ.. تتوقّف في منتصف بعض الطرق، لا تجدُ حلًّا آخر سوى تغيير المسار، لا الأمام يُغري بالتقدّم، ولا الخلف يدعو إلى الإياب، تحفرُ دربًا فرعيًا، تلجِهُ ولا تدري أفيه تجدُ نفسكَ أم تزدادُ تيهًا. المُتعبون، يتكالبُ عليهم الحُزن، يتصدّعُ جوفهم، يتشقّقون كتُربةٍ قاحلة يُذويها الظمأ. ينقضُّ عليهم البؤس ناهشًا أرواحهم الهشّة، فيُردّون قتلى لا يواري نزف جراحهم أحد، تتشكّلُ من دمائهم أنهار، تتفرّعُ من آلامهم جداول، فتنمو على ضفافهم أشجارٌ يابسة، أغصانٌ جافّة لا تُظلّلُ أحدًا ولا تُثمرُ ما يسدّ به الرمق، نجومٌ زرقاء في سوادهم اللامُتناهي، لا ضوء ينعكس منهم، يتجمّعُ نورهم بين أضلاعهم، يُربّون فيهم الأمل، يحمون ما تبقّى منهم، لا يظهرونه إلى العالم كيلا يحرقه مثلما أحرقهم من قبل. الصمت هو وسيلة التعبير الوحيدة المتاحة لهؤلاء، يتامى الحيلة، إنّه سرّهم السماويّ، يعرفهم الله تعالى أكثر من غيرهم، يعلم سرّهم لأنّ لا علانية لديهم، هم اصدقاؤه المقرّبون، أحبابه المنهكون، يحيطهم برأفةٍ معزّزة، لا أسلحة لديهم، لا متاع في هذه الدنيا يبدونها وينتهون منها وهم في حالةٍ من الترقّب والصبر، يستعينون بالصبر والصلاة، يخشعون في مناجاةٍ قلبيّة لا يسمع همسها أحد، تتصعّد الملائكُ نحو السماوات العُلا، مُحمّلين بحقائب بلوريّة، تضمُّ حديثهم الروحيّ الصامت.