عُدنَا..
وقد عُدتَ.. ولا أزالُ أحفظ حبّكَ سيّدي عن ظهر قلب.. عن ظهر حنين.. تساورني رغبة بأن أغفو تحت ظلّ سعفة نخل كانت تظّلنا معًا وقد أضعتُ مكانها منذ سنين.. لايزال أثر ظلّها مطبوعًا في وجهي، بيد أنّني لم أعد أره يا أبي، فقد توارى خلف خديّ المقشّرين من حرارة الشمس.. أبا عبدالله.. ماذا سقط من جيوبي في أثناء ركضي في دهاليز الأيام الماضية؟ وماذا سقط من رفوف قلبي التي أُعتمت بدخان الخيام المحترقة؟ غابات ليل.. أنهار نصوص مبلّلة بالدمع كنتُ قد كتبتها لكَ.. قبائل ريح.. والنار تتلوّى من بعيد.. أنا أحد كشّافة حلم السماء.. أنا صاحبة الأحاديث الكثيفة معها.. كم طالبتُ القدر بعناق أخير طويل معكَ، اتفقتُ معه وأبرمتُ عقد الصبر بعناية وجعلتُه عِقدًا في جيدي.. أيقونة وتميمة أعيذ روحي به.. كنتَ أنتَ دائمًا مَن تتدخّل سريعًا، وتردّد ترانيمكَ المقدّسة في فضائها، يتردّد صوتكَ الجميل بها حقيقة لا حلمًا.. واقعًا لا خيالًا.. وقد عدتَ يا أبي.. وحدكَ مَن كان يعلم مدى انقباض صدري يومها.. وحدكَ مَن رأى في ذلك اليوم الضباب كيف التحف عينيّ وهو يغزو جفنيّ المتورّمين من البكاء.. قلبي هو مَن جفّ وتشقّق من العطش.. لحظة رحيلكَ هي مَن أشعرتني بالظمأ.. ومهما شربتُ الماء بعدها فأنا لا أرتوي.. كان يومًا كبيرًا، واسعًا عظيمًا، غائرًا عميقًا يبتلع كلّ شيء بدون هوادة وبلا رحمة، وفي خضمّه كنتُ أحاول أن ألفت نظركَ كنجمة تسعى جاهدة كي تومض وسط مجرّة ميّتة! جلستُ ولم أتحرّك ساكنة، وأنهار الدموع تمرق على وجنتيّ شلالات هادرة، جلستُ القرفصاء، تكوّمتُ على نفسي ولربّما أردتُ احتضانها، لا أحد يقوى على الثبات ساعة رحيلكَ لا أحد يصمد أمام هذا الكمّ الهائل من الطغيان في حقّكَ، حتّى أخي زين العابدين كان يلفظ أنفاسه وهو يراك تبتعد، فكيف بي! لم أرد أن تمسح على رأسي مثلما يُصنع مع اليتامى، أردتُ فقط أن أطيل اللحظات معكَ!