رياض الزهراء العدد 173 ألم الجراح
سَامرّاءُ تنعى طُفولَةَ السَّيّدةِ رُقَيّةَ (عليها السلام)
أبصرتها وأحوالها تشكو مرهقة، كأطلال أرى مآذنها مصدّعة. وتئنّ جدرانها متناثرة الأركان ممزّقة. سامرّاء، يا مدينة الجراح مَن تبكين هذه المرّة؟ ومَن ذَا فتح لكِ جرحكِ وبدون رحمة سحقه؟ ما الذي أطفأ بريق قبّتكِ، وأطال لياليكِ وأرّقها؟ ما أوضح أحزانكِ وما أقساها. فكأنّكِ تحتضرين ببطء وبصمت، لكن تبقين على أمل أن تحيا ذاكرتكِ على تفاصيل انتصار قادم يؤرّخه المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) بحروف ذهبيّة على بوّابتكِ القديمة. وبشغاف الأفق ينتشر. كم عشقنا حكايات الإيثار التي تروينها لنا يا سامرّاء، وكم عشنا على بطولات مقدّسة تنشد بقاء السلام. سامرّاء أيّتها الأمّ الحنون. ها أنتِ اليَوْمَ تسكبين عشقكِ لآل البيت (عليهم السلام). وحزنكِ اليَوْمَ ينعى الطفولة، يبكي السلام الذي تزفّه تلك الحمامات البيضاء. لتبكي طائرًا صغيرًا لم يُكتب له أن يعمّر في الأرض. ملاك من ملائكة الرحمة غابت ملامحه تحت ركام الظلم والقهر الأمويّ. وتشظّت جدرانكِ مع تشظّي قلب رقيّة (عليها السلام) الرقيق. طفلة الحسين (عليه السلام) تشبه الياسمين فوق المروج، تمدّ جذورها بين الأشجار. لكنّ عينيها تبحثان عن سحر مهيب، فقد أدركت تلك السيّدة الصغيرة ذات الخمس سنوات بأنّ موعد الرحيل قد حان، وأنّ نهاية الفراق باتت قاب قوسين أو أدنى وهي ترى رأس العزيز، فسقطت معه آخر أوراق آمالها، وانطفأت شموع أحلامها؛ ليمتلئ صدرها بحسرات قاتلة، لتسكن أنفاسها بلهفة منشودة على نحر الذبيح الممزوج بالدم والطيب، لتنتهي الدنيا أمامها وتولد شهيدة من رحم الأطهار؛ لتكون قربانًا آخر في سبيل الله تعالى، ليستقبلها مولاها الحبيب في ملكوت السماء. آهٍ يا سامرّاء! عجبًا كيف اختزنت أعتابكِ كلّ هذا المرار؟ وكيف خبّأتِ كلّ هذه الجراح لتبقي دافئة كأحضان الأمّهات؟ تحتضنين إغفاءة الأطفال تحت أهداب مآذنكِ المقدّسة، وترسمين ابتسامتهم البريئة التي ترتجي فيكِ الأمان. وتغازلين أحلامهم البسيطة. كيف رمّمتِ تلك الشروخ العميقة، وضمّدتِ جراحكِ الموجعة؟ فأمامكِ نقف حيارى.. ونحن نراكِ مرّة منهزمة بدمعكِ وأحزانكِ، ومرّة نراكِ منتصرة بإيمانكِ وطموحاتكِ المقدّسة، تُمسين على دمعة وألم، وتصبحين على بسمة أمل. فتسقيننا فرحًا يغسل الآهات والآلام، وتزرعين فينا أملًا ينتشلنا من العدم، ويعيد فينا بناء الروح من جديد يومها، ويتواريانِ معًا في حلم انتظار العودة.