رياض الزهراء العدد 174 تنمية البشرية
غُربَةٌ
يُقبل علينا من بعيد، حاملًا بيديه المرتجفتين كرسيًّا خشبيًّا لينتقيَ مكانًا في ركنٍ من الحديقة البسيطة، يجلس هناك ويبدأ بتأمّل الأشجار من حوله، وعيناه الذابلتان تتابعان حركة أوراق الأشجار وهي تتأرجح مع النسيم الهادئ، وفجأة تتهاوى إحدى الأوراق على الأرض بحركة بطيئة، وتتقاذفها الريح تارة إلى الأعلى وأخرى إلى الأسفل، وكأنّ الورقة تقاوم السقوط، ولا ترغب بالوصول إلى نهاية المطاف والمكوث في الأسفل. ذلك الجالس على الكرسيّ هو إنسانٌ أفنى حياته في القيام بما عليه من مسؤوليّات وواجبات تجاه عائلته ومجتمعه، وأعدّ أشخاصًا ناجحين مهنيًّا، فما كان منهم إلّا أن اتّجهوا إلى مجالات حياتهم المختلفة وانشغالاتهم الحياتيّة، ولم يكن ذلك الإنسان من ضمن سلّم الأولويّات الخاصّة بهم، حينها فضّل إكمال حياته في دار خاصّة لرعايته وإزاحة هذا الثقل عن بنيه. كثيرة هي تلك القصص المشابهة لما ذكرتُه، التي يتّضح لنا عن طريقها مدى هشاشة النسيج الأسريّ لدى بعض العوائل في المجتمع، ومدى الحاجة إلى تسليط الضوء على نقاط الضعف التي تبدأ بصورة يُستهان بها، وما إن يتمّ التغاضي عنها حتى تنمو بشكل كبير لتستشري في جسد المجتمع، وحينها يتطلّب اجتثاثها إدراك خطورتها أولًا، ومن ثمّ العمل على آليّة التخلّص منها. لذا كان من الضروريّ تقوية النسيج الأسريّ بطريقة محكمة عن طريق تأصيل المفاهيم الاجتماعيّة التربويّة للعمل على تراصّ الخيوط إلى جانب بعضها البعض، مع توفير مسافات للأمان؛ ليكون مرنًا قابلًا للتعامل مع الضغوط والحالات الطارئة التي تستوجب وجود مساحة من الحريّة المتوازنة الآمنة لكلّ الأطراف في ظلّ الشريعة الإسلاميّة السمحة، التي ما تركت مجالًا في الحياة إلّا ووضعت له مفتاحًا للتعامل السليم، وفتح كلّ الأبواب المؤصدة، ومن أهمّ النقاط هو ما يتناول برّ الوالدين والتعامل معهم بالحسنى، مثلما قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء: 23)، وما تحمله الآية من الحرص على تقديم كلّ صنوف الطاعة والاحترام، بل أكثر من ذلك وهو الزيادة في إظهار الحبّ والمودّة لهما، والتأكيد على نيل وسام رضاهما الذي ينير للأبناء الدروب المظلمة، فيجعل الحياة تتميّز بالتوازن المريح. هنا يجدر بنا أن نسأل أنفسنا، هل نحن بارّون بآبائنا؟ لو طُلِب من أحدنا وضع تقييم من عشر درجات، فما الرقم الذي سيتمّ كتابته؟! وماذا فعلنا لنُجنّبهم الشعور بالغربة الذي يُعدّ من أصعب أنواع المشاعر، حيث يرى الإنسان كلّ لحظات حياته تذهب سدىً، وأنّ مَن بذل حياته لأجلهم لا ينفكّون عن الانشغال بوسائل التواصل أو نشاطاتهم الخاصّة، في حين أنّ عيون الأب تلاحقهم أينما حلّوا أو ارتحلوا متأمّلةً نظرة اهتمام منهم، وهذا هو جُلّ حاجتهم مثلما جاء في الآية الكريمة: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء: 24)، فالرحمة والحبّ وإشعارهم بالاهتمام، وتلك النظرات الحانية هي التي تنتشل الآباء من دوّامة الشعور بالغربة وما يحيط بها من خليط من الآلام على ما مضى، والقلق الذي يغلّف مستقبلًا مجهولًا مخيف المشاهد. أغدقوا على آبائكم كلّ ما تملكون من حبٍّ واهتمام، وحاولوا بكلّ ما استطعتم من وسائل حمايتهم من شبح الشعور بالغربة، فهم الأمان والسور الحصين لكم، ويستحقّون الأفضل دومًا.