رياض الزهراء العدد 174 لحياة أفضل
نَحنُ والحُبُّ الإلهيُّ
حُبّ يَملأ شِغاف القلب ويتغلغل إلى عُمق الروح، تتحوّل بموجبه حياة الإنسان إلى واحةٍ غنّاء، تنبض بالطهر والخير والنقاء، يُؤثر فيها مُراد المحبوب على كلّ مرغوب ومطلوب، حتّى تتسامى النفوس وتتألّق الأنوار في القلوب، فتعيش لذّة الحُبّ الحقيقيّ، وتكون أشدّ حُبًّا له تبارك وتعالى، وتقدّمه على كلّ حُبّ أرضيّ أو تعلّق طينيّ... فما حقيقة هذا الحبّ؟ وكيف نصل إليه ونتنعّم به؟ هذا ما سنتعرّف عليه عن طريق هذه السلسلة المباركة: (أشدّ حبًّا لله). عندما نتأمّل الآيات والروايات، فأنّنا نجد أنّ موضوع الحبّ الإلهيّ قد حظي باهتمام كبير وعناية فائقة؛ لأنّه مرقاة العروج إلى الرتب السامقة، فالحبّ فطرة إلهيّة يمكن عدّه من أجمل العواطف الإنسانيّة التي أودعها المولى (عزّ وجلّ) في النفس البشريّة، فهي التي تلهمه وتحرّكه وترسم مساره، إمّا نحو شقاء دائم وإمّا سعادة أبديّة. فالحبّ تارة يكون عاملًا هدّامًا لا يجني المرء من ورائه إلّا التعاسة والدمار، وأخرى يصبح عاملًا للرقيّ والتكامل والازدهار، وذلك بناءً على بوصلة الحبّ وما يستوطن هذا القلب، فلا ضير في حبّ المرء لوطنه وأهله وأولاده وسائر ما يتعلّق به، شريطةَ ألّا يكون هذا الحبّ مقدّمًا على حبّ الله (عزّ وجلّ)، فهنا ستتعثّر خطوات الإنسان ويهوي في مستنقع البعد والذلّ، ويتخبّط في أودية الشقاء، ويضلّ فلا يصل، يقول عزّ من قائل: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 24). إنّ الحبّ الإلهيّ لا يلغي أنماط الحبّ الأخرى؛ لأنّها من الفطرة ولا يمكن نكرانها، بل يقوم بتهذيبها وتأطيرها ورسم مسارها، لتبقى في ضمن حدودها التي خُلِقت لها، فلا يشقى الإنسان بها، بل يتّخذ منها سبيلًا إلى حبّ خالقها. والمشكلة الحقيقيّة تحدث عندما يتحوّل حبّ المرء لزوجه وأبنائه وعمله وأمواله وكلّ ما يتعلّق به إلى معبودات من دون بارئه، ويتجاوز بسببه تعاليم الدين الإلهيّ، وينحرف عن الطريق السويّ، فيكون مصداقًا لقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (البقرة: 165). إنّ الله سبحانه هو المستحقّ للحبّ، ولا وجه لحبّ ما سواه، إلّا أن يكون متفرّعًا عن حبّه جَلّ في علاه، فتصير جميع المحبوبات في طوله لا في عرضه، وتأخذ أنوار حبّها منه؛ لأنّه مَن أمر بأن ينتشر الحبّ بين خلقه في أرضه. إنّ قلوبنا خُلقت لتكون حرمًا وعرشًا لربّنا، ونوافذها مشرعة وزمام الأمر بأيدينا، قد نفتحها على الصحاري المجدبة والظلمات الموحشة، فلا نحصد إلّا التيه والشقاء، وقد نطلّ عبرها على الملكوت، فننعم بالسعادة والهناء ونرتقي سلّم الكمال مع الأتقياء.